إن الانتفاضة التي هزّت البلاد والتي أدّت الى انهيار نظام الاستبداد ومن دعمه، ثبت ان محرّكها هو توق الشعب الى الكرامة وتلتها ثورات أخرى في عديد الدول العربية وكانت بداية الغيث. فوجب تحليل الظاهرة بطريقة عقلانية وبمنأى عن المغالاة لأننا نمثّل جزءا لا يتجزأ من منظومة عالمية، ونلاحظ ان «الجديد» في النظام العالمي الراهن ليس التحوّل من نظام «القطبية الثنائية» وهي السيمة الأساسية لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الى أي «نظام قطبي» آخر، وإنما التغيير في طبيعة «القطبية» ذاتها. فتقليديا كان التعرّف على القطبية يتم من خلال توزيع القوة والسلطة بين دولة قومية او تكتلات او أحلاف بينها، أما الآن فإن التعرف على القطبية يتم من خلال سيادة شبكة هائلة ومعقدة من التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الشؤون العالمية. وتتمثل هذه الشبكة أساسا في وجود «منظومة رأسمالية عالمية»، تعتبر المصدر الحقيقي لعملية الهيمنة. وتتركّب هذه المنظومة من مكوّنات ثلاثة: أولها الدول الرأسمالية المتقدمة (G8) وثانيها المؤسسات الاقتصادية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير) وثالثها منظمة التجارة العالمية. ومن المفهوم ان مكوّنات هذه المنظومة تعمل معا، وفي تناغم تام، من أجل تحويل «العالم» الى «سوق موحدة» تعمل وفقا لآليات النظام الاقتصادي الرأسمالي، وقيمه ومفاهيمه حتى وإن اشتدّت المنافسة بينها. وقد أضافت هذه المنظومة أيضا الخطاب القانوني لخدمة مصالحها اذ أردته آلية من آليات السنفونية الليبيرالية. وحتى تكون دراسة الظواهر الاجتماعية صائبة، يتوجب علىكل دارسيها تحليلها عبر مقاربة متعددة الاختصاصات، اي الأخذ بالاعتبار تشعّب تلكم الظواهر. الا ان ما نلاحظه من مواقف وآراء فقهية هذه الايام ببلادنا، هو بمنأى عن الأبعاد الحقيقية للانتفاضة، لأن اهمال أبعاد آلية العولمة يشكّل تحليلا سطحيا لما يحدث. واخترت ان أسلّط المجهر علىما حدث في تونس التي هي جزء من المنظومة العالمية الكونية. وأنا أفضّل مصطلح المفكر والاقتصادي المصري «اسماعيل صبري عبد الله» وهو مصطلح «الكوكبة» على مصطلح «العولمة». الكوكبة مصطلح الكوكبة ابتدعه المفكر الاقتصادي المصري «اسماعيل صبري عبد الله» واشتقّه من فعل «كوكب» بمعنى جمع أحجار ووضع بعضها مع بعضها الآخر في غير شكل محدّد، وهو ما يقابل «كوّم» في تجميع التراب، ونسج المفكّر على السلف القريب الذين نقلوا فعل «ثقف» وأدخلوا في لغة العرب «الثقافة» بالمعنى المتداول حاليا. فقصد بالكوكبة التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة او انتماء الى وطن محدد ودون الحاجة الى اجراءات حكومية. فالتغييرات تقف دائما وراءها قوى اجتماعية واقتصادية ذات تأثير في السياسة والاقتصاد ترى في هذا التغيير مصالح مهمة لها. ولو سلّطنا الضوء على ما يحدث اليوم في العالم العربي من هزّات لتبيّنا وأن «الجديد في النظام العالمي» الراهن هو التغيير في طبيعة «القطبية» وما نتج عنها بالنسبة الى بلداننا. كانت «القطبية الثنائية» السمة الأساسية لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبرزت خلال هذه الفترة ظاهرة الاستقلال في عديد دول التخوم. وعملت دول المحور على ادماج هدف تحقيق التنمية في البلدان التي انعتقت من الاستعمار. وفوضت لمؤسستي «بروتن وودز» وهي البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي تحديد السياسات التنموية في هذه البلدان. تميزت هذه السياسات بنزعتها الليبيرالية فكانت تنمية معوجة ومتوجهة في الأساس للخارج تضعف من تكامل الاقتصاد لا سلطان للإرادة الوطنية عليها. فكانت أزمة المديونية في دول العالم الثالث التي أثبتت مساوئ التنمية التي حددتها مؤسستا «بروتن وودز». وكانت نتائج هذه التنمية وخيمة على التنمية وقدمت المؤسستين وصفات علاجية منها الاصلاحات الهيكلية التي زادت من حدة آثار الازمة على الشعوب، ولم يشف بلد واحد من دول التخوم بل أصبح في حالة مرض مزمن. شكّل انهيار المعسكر الشرقي تحولا في المنظومة الرأسمالية وأصبح الخطاب الايديولوجي في النظام العالمي يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية: الديمقراطية، حقوق الانسان واقتصاد السوق. ويتميز هذا الخطاب بغياب الرؤية الاجتماعية، وهو ما يعكس حقيقة أنه لن يستطيع أن يعد البشرية بأي شيء عدا كونه يلتزم بخلق ظروف ومحيط عام يكون فيه الحق للأقوى والبقاء للأصلح. بدأت الشركات الكوكبية تفرض وجهة نظرها في التعامل مع مختلف الدول على الحكومات ووزارات الخارجية، كما أصبحت تقيم أوضاع كل دولة في الجنوب وتزن احتمالات وحجم الارباح التي تحقق. أما في الشمال فإن الشركات الأوروبية وحدّت أوروبا وعملتها. وأصبحت تهدد الدول الفقيرة في الاتحاد الأوروبي ونذكر الازمة المالية التي هزّت اليونان ولم تقعدها، حيث برزت ظاهرة البطالة في صفوف الشباب وقلصت دور الدولة في الميدان الاجتماعي والاقتصادي. إننا نعيش في منظومة تفرض على كل تونسي غيور الوعي بالاخطار التي تحدق بالانتفاضة حتى نحفظ لإرادة الشعب أوفر حظ للتكريس. «إرادة الشعب» حتّم نظام القطبية توخّي العقلانية في التعامل مع ايديولوجيا النظام العالمي «الجديد. وتحقيق ارادة الشعب يجسّد على أرض الواقع انطلاقا من ايمان كل من ينصّب نفسه كمدافع عنه بالواقعية السياسية. ولا جدال وان عديد الاحداث التي عاشتها بلادنا منذ الانتفاضة لا تنم عن وعي بحدة الاخطار المحدقة بنا، فالتراجع المسجل في الميدان الاقتصادي يفرض علينا مراجعة الاحداث منذ هروب المخلوع، حتى نتفادى غلق المؤسسات الاقتصادية وتنامي البطالة. ويتوجب على أولى الألباب في هذه الربوع تفادي الانزلاق في اختلاق مشاكل واتخاذ مواقف لا جدوى منها سوى بث البلبلة. وقد لفت انتباهي في الآونة الاخيرة موقفين متناقضين لفقيهين وهما السيد عياض بن عاشور والسيد الصادق بلعيد: فالاول اعتبر في حوار مع جريدة «الصباح» بأن المصادقة على مشروع القانون المتعلق بانتخابات المجلس التأسيسي، تشكل حدثا مباركا وأضاف ان الفصل 15 من المشروع الذي أقصى التجمعيين صائب، لأن مسؤولية «التجمع» في الاضرار والاساءة للبلاد ثابتة، مبررا هذا الموقف بما حدث اثناء الثورة الفرنسية والبلشفية وثورات أوروبا الوسطى. ومضيفا ان عودة التجمعيين هي خيانة لإرادة الشعب. ورأى الأستاذ الصادق بلعيد في حوار صحفي لجريدة «الصباح» أنّ الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة ليس لها تمثيلية ومشروعية سيما أن عملية تشكيلها تمت في اطار مناورات وتحالفات ومساومات غير جدّية بين أحزاب ليس لها تمثيلية ومشروعية. إنّ التباين في آراء فقيهين أمر متعارف، لكن الأمر اكتسى خطورة لكون الفقيهين تموقعا في خضم الانتفاضة وأصبحا فاعلين سياسيين. ويفرض هذا التموقع الابتعاد عن المواقف التي من شأنها بثّ بلبلة لها أبعاد خطيرة ومنطلقاتها ذاتية. وأظن أنه لم يغب عن الفقيهين أنّ القطبية تحتم على رجل السياسة الواقعية. والواقعية تفرض انتقاء المرجعيات للتبريرات المعتمدة ضرورة أن الثورة الفرنسية والثورة البلشفية يشكلان نتاجا داخليا للرأسمالية المعاصرة في بدايتها. أمّا التحولات التي تشهدها المنظومة في البلدان العربية فإنها نتاج لنظام القطبية. فالمقارنة الصائبة تكمن في الرجوع الى أحداث جدّت أثناء هذه الفترة. ونذكر أنّ عظمة انتصار الزعيم الافريقي «نلسون مانديلا» على التمييز العنصري تضاهي ما دفعه الشعب التونسي للتخلص من الديكتاتورية إذ تميز الزعيم الافريقي بذكاء سياسي كبير وغلب العقل على العاطفة. أمّا تبني الاقصاء إن كان مطلقا كما ذهب إليه الأستاذ عياض بن عاشور أو محددا كما نادى به الأستاذ بلعيد، فهذا موقف ذاتي وخارق للقانون، لأن الاقصاء لا يسلط إلا على مواطن صدر ضدّه حكم قضائي سلبه حقوقه السياسية. وهذه القاعدة متعارفة في جميع الأنظمة القانونية. فإسقاطها من قبل الفقيهين لم تكن محض الصدفة، ذلك أنّ موقفهما من مسألة الاقصاء قد أثبت مقولة الفقيه الفرنسي «ريبر» الذي أكد أنّ الفقيه المحنّك هو الذي يمرّر أفكاره أثناء صياغة القانون ويستغّل نفوذه المعنوي لتكريس أفكاره. فوجب الحذر من المواقف الفقهية الذاتية في ربوعنا التي تعودت اسقاط متطلبات المنظومة الاقتصادية العالمية من تحاليلها، ذلك لأن آلياتها تخضع الى قواعد آمرة بمنأى عن مصلحة الشعوب، لذا علينا التعقل والتمعن والتبصر وتفادي آراء فقهاء القانون لأنهم كما وصفهم «جون مينار كينز» الاقتصادي البارز في ختام أعمال اللجان التي بعثت البنك الدولي للانشاء والتعمير سنة 1945بأنهم «يحذقون تحويل الشعر الموزون الى شعر حرّ والشعر الحر إلى رطانة مضيفا أنّ قدرة فقهائنا بلغت الى حدّ أن حوّلت رطانتنا الى شعر حرّ وشعرنا الحرّ إلى شعر موزون». وصفوة القول أنّ حساسية الوضع الذي تمر به بلادنا والعالم العربي يوجب على كل تونسي غيور إدراك المخاطر التي تحدق بالانتفاضة والتصرف بذكاء وفطنة وبعبارة أوضح تسليط قراءة موضوعية على ما يحدث في تونس وفي بقية الأقطار العربية والأدوار التي تقوم بها دول المحور المحكومة بالمصالح الاقتصادية لمستثمريها، ولا يغيب على التونسي أن صيانة مكاسب الانتفاضة واجبة لأن ميزة العلاقات الدولية تكمن في عدم التكافؤ.