كان «ديوجان»( Diogène) حكيما، على طريقته، حكمةً أغرت به الإسكندر الأكبر، فتقرّب منه، وعبّر له عن استعداده لتحقيق ما يريد من طلبات. حفاوة الملك الأكبر قابلها الكلبيّ القادم من مدينة «إيسوب» بوثوق وخشونة تنسجم تمام الانسجام مع مذهبه: «اغْرُب أنت عن شمسي!». هذه الشمس الساطعة التي تكتنف الفيلسوف المنشقّ لم تكفه مؤونة الرحلة والبحث، فاستمرّ حاملا فانوسه في وضح النهار، بحثا عن..الإنسان كما كان يجيب سائليه المستغربين. هذا الإنسان المنشود ليس إلاّ مثال الفضيلة والسعادة الحقّ. ولا فضيلة، في مذهب الكلبيّين، دون اكتفاء ودون عراء ودون وقاحة أيضا. لم يجد الإسكندر الأكبر من بدّ للتعبير عن هوانه أمام رجل غريب يعيش عاريا في برميل محاطا بالكلاب. فقال بحسرة لا تخفى: «لو لم أكن الإسكندر لرغبت أن أكون ديوجان»! من سلالة هذا الكلبيّ رجلٌ آخر من القرن الخامس الميلاديّ «سمعان العموديّ» أنفق سحابة عمره معلّقا في رأس عمود رفض النزول عنه طيلة سبع وثلاثين سنة، رغم الشمس، والريح، والمطر، والقيظ، ورغم حديث الروح، ووسوسات النفس. ومن هذه الذرّية طلع قدامى ومعاصرون. أرّخ لطائفة منهم النيسابوريّ في «عقلاء المجانين». أحد أكبر نحاة القرن الخامس الهجريّ أبو الحسن البصريّ كان واحدا من عقلاء المجانين. تغيّر كلّ شيء ذات يوم. فبينما كان مشغولا بمعاناة حكمة الإعراب وعلله أبصر قطّا يحمل الطعام إلى قطّ أعمى. وفطن إلى أنّ المبصر كان، باستمرار، يعول ابن جنسه الأعمى. من ساعتها، هجر البصريّ النحو، وطلّق حياته بين الناس، وسكن سطح أحد المساجد حتّى مات. ومنهم معاصرون ولدوا وعاشوا بين دفّتيْ كتاب كبهلوان «كافكا» الذي لم يفارق العيش على أرجوحته، والبارون الجاثم ل»إيطالو كالفينو» الذي أنفق حياته فوق شجرة، وحتّى لحظات الحبّ المختلسة مع من أحبّ من النساء كانت تتمّ، أيضا، هناك فوق الشجرة. أجد من الوجيه جدّا أن يخرج من بيننا، على هذا العهد، «ديوجان» عربيّ أو تونسيّ. وهل نحن في غنى عن الكلبيّة في مواجهة القبح المستشري، والعهر السياسيّ، والانتهازيّة، والنميمة، والكذب، والتزييف، والخداع، والأنانيّة، والحسد، والتملّق، والتسلق، ورتق العذريّة، وركوب الموجة الصاعدة، والنفاق و«الترهدين» وفقدان الذاكرة، والسخافة والرداءة والانحطاط؟ أسوق هذا الكلام ردّا على الضيق بالأصوات المختلفة المحلّقة خارج السرب. ولا أجد في «وقاحتها» المزعومة غضاضة، ولا في «النرجسيّة» المنسوبة إليها ما يريب، أو ينافي «الحياء»العامّ. وأشعر، أحيانا، أنّنا نضيق بمن يختلف عنّا، أو بمن يحيا نسيجا وحده. ونريد للغير أن يتماهى معنا، وأن يشبهنا وإلاّ فشيطنته هي الحلّ. كأنّ في كلّ منّا يغفو رقيب صغير يريد أن يمارس دوره باقتدار غريب. ومازال فينا عدد لا يستهان به ممّن أدمن طهرانيّة زائفة تستنكف من تسمية الأشياء بمسمياتها، وإن جرحت وصدمت. نعم. الكلبيّ شخص وقح. وما الذي يمنع من تقريظ الوقاحة؟! أليست الدلالة القدحية للوقاحة حديثة العهد، فيما هي، في اللسان مثلا، لا تخرج عن الصلابة والصبر والتجربة والمكابدة؟ الوقاحة الكلبيّة بمحمولها الأصيل (kunisme antique) أمر ممكن، بل هي حاجة لمواجهة وقاحة مستحدثة هي «وقاحة الأسياد»، أعني ذلك الضرب من «السينيزم» ( cynisme ) الذي ما انفكّ ينتشر بين الناس عامّتهم وخاصّتهم، والذي جعلنا نكتشف أنّ في كلّ جبّة فقيها أو محتسبا أو رقيبا أو واعظا أو شرطيّ آداب أو مصلحا وصيّا. يكفي أن ترى طاحونة القتل الرمزيّ وهي تزدهر، هذه الأيّام، لتوقن أنّنا بحاجة إلى «ديوجان» تونسيّ لا إلى «حنبليّة» تتلفّع برداء الملّة أو الأخلاق الشعبويّة. لا بوادرَ، إلى حدّ الآن، على أنّ ثقافة ما بعد الثورة بصدد التشكّل، وما هو خليق بهذه اللّحظة لم يأت بعد. الضيق بالمختلف، والولع بالنفي والإقصاء، والارتهان لما يحبّه الجمهور، وتحويل الكلام على الثورة إلى لغة خشبية وخطوط مستقيمة بعض من دواعي هذا «التشاؤل». في وجه الاستبداد، والاحتساب، واللّغة الخشبيّة نحن بحاجة، أيضا، إلى الكلبيّة باعتبارها «إيطيقا» مضادّة لها أكثر من موجب، وأكثر من وجه.