أكد الأستاذ الجامعي محمد صالح القاسمي، المختص في القانون الاجتماعي، أن اشكالية التشغيل، التي قامت عليها الثورة التونسية، تبرز اليوم كأحد أهم تحديات الحكومة المؤقتة خاصة في ظل عدم قدرة بعض المؤسسات على المحافظة على مواطن الشغل وتدني مستوى النمو والوضع في ليبيا وتراجع النمو الاقتصادي العالمي مما تولّد عنه زيادة في عدد العاطلين. وأضاف القاسمي في حديث ل«الشروق» أن كل الدول ملزمة بتوفير الشغل لأبنائها عملا بالفصل 23 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان «لكل شخص حقّ الشغل وحرية اختياره» وهو ما جسّمه دستور 1959 في ديباجته.. وهذا ما يجعل الحكومة المؤقتة والحكومة القادمة ملزمة بمعالجة مشكل البطالة واتخاذ الاجراءات الكفيلة بذلك. وشدّد المتحدث على أن كل ذلك يجب أن يمرّ حتما بمناخ أمني مستقر يحمي الناشطين الاقتصاديين. وفي ما يلي نصّ الحوار: ما هو تقييمكم لوضع الشغل اليوم في تونس؟ يمكن تلخيص المشهد العام لسوق الشغل اليوم في تونس بوجود شغّالين وضعيتهم منظمة عبر قوانين أساسية واتفاقيات مشتركة، وشغالين عرضيين أو وقتيين أو موسميين وضعيتهم غير واضحة، وينضاف لهؤلاء المتقاعدين ثم الأهم من ذلك العاطلين، من حاملي الشهائد العليا وغيرهم.. كما أن وضع الشغل في تونس متأثر للغاية بالنظام التربوي المتبع منذ سنوات والذي اتضح أنه ينقصه التأقلم مع متطلبات سوق الشغل، فمؤهلات خرّيجي الجامعات عادة ما لا تتناسب مع حاجيات المؤسسات الاقتصادية.. كل هذا فضلا عن الفوارق الكبرى في مجال التشغيل بين المدن الكبرى والصغرى، والمناطق الحضرية والأرياف، والعاصمة والشريط الساحلي والمدن الداخلية. كما يمكن أن نضيف الى هذا المشهد ارتفاع عدد خريجي الجامعات وأصحاب الشهائد التكوينية والذي يقابله نقص في المشاريع الاستثمارية الكبرى القادرة على استيعاب أكبر عدد من العاطلين. كل هذا إضافة الى وجود حقيقة «عالمية» وهي أن توفير الشغل لكل فرد من أفراد المجتمع مستحيل ولا بدّ من وجود نسبة بطالة في أي بلد. أي تأثير للبطالة على المجتمع وعلى الدولة؟ أعتقد أن البطالة لها تأثير بالغ على الجميع: الفرد والمجتمع والدولة، فعلى المستوى الفردي، تولّد البطالة لدى العاطل شعورا بفقدان الكرامة وتدفعه نحو متاهات عديدة (إجرام انحراف تطرّف..). أما على المستوى الاجتماعي، فإنها تتسبّب في نشوب الخلافات العائلية وبين الأشخاص، مما يعطّل بقية مصالح الدولة والمجتمع. وبالنسبة الى الدولة، فإن البطالة تؤدي الى تراجع الحركية الاقتصادية كما تؤدي الى ظهور بوادر المعارضة السياسية المتطرّفة التي قد تعرقل وتشوّش السير الطبيعي لدواليب الدولة. بوصفكم مختصا في القانون الاجتماعي وقانون الشغل، أية حلول ترونها كفيلة بتفادي مزيد تفاقم أزمة البطالة؟ أولا لا بدّ من إدراج حق الشغل ضمن أولويات الاستراتيجية التنموية للدولة.. ولا بدّ أن ترمي استراتيجية التشغيل الى الترفيع في نسق إحداثات الشغل والى تعزيز العمل المستقل من خلال مزيد تبسيط الاجراءات عند بعث المؤسسات ودعم الاقتصاد التضامني وتطوير أنماط التشغيل الجديدة.. كما يجب ضمان تكافؤ الفرص بين الجهات وبين الأشخاص في التشغيل، وهو العنصر الأهم، فضلا عن ضرورة تسهيل إدماج الفئات الهشّة على غرار المعوقين والمرضى. ومن جهة أخرى، ولمزيد امتصاص تأثيرات البطالة، فإنه يتجه مراعاة الوضع الاجتماعي للعاطلين من خلال تمكينهم من المساعدات الظرفية أو إعفائهم من بعض المعاليم والأداءات وتيسير ظروف معيشتهم اليومية، إضافة الى ضرورة معاملتهم بطريقة حضارية وإنسانية لا تمسّ من كرامتهم عند تواصلهم مع الادارة بحثا عن شغل.. وهذا يتطلب تحسين ظروف الاستقبال في مكاتب التشغيل والاحاطة بهم وتشخيص حالتهم حالة بحالة قصد معرفة نقاط القوة والضعف في مسارهم المهني والشخصي ثم تسهيل اندماجهم في سوق الشغل عبر التكوين التكميلي مثلا والتكفل بمصاريف الشغل وتشجيع الجمعيات على مزيد العناية بهم. وبالنسبة الى سياسة التشغيل، كيف ترون السبل الناجحة لتنفيذها؟ حتى يقع إرساء سياسة تشغيل تستجيب بشكل أفضل لتطور الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لما بعد الثورة، أرى أنه لا بدّ من القيام أولا بعدّة مبادرات أهمّها الوفاق الوطني والارتقاء بنسق النمو ودفع الاستثمار وإذكاء روح المبادرة وتشجيعها ووضع برامج جديدة للتأهيل والتكوين المهني وتعزيز برامج التشغيل... وأعتقد أن الظروف اليوم مواتية لانجاح هذا التصوّر خاصة بعد أن بدأت بوادر الديمقراطية تبرز في بلادنا... فهذا سيشجع المستثمرين على الانتصاب ببلادنا... وبالتوازي مع ذلك، بات من الضروري اليوم احياء جملة من القيم مثل قيمة نبل العمل وقيمة التعويل على الذات وقيمة المبادرة وغيرها. ومن الناحية العملية الصرفة، كيف تتصورون الحلول؟ توجد 5 محاور أساسية تجسّد النهوض بسياسة التشغيل من الناحية العملية. فأولا لا بدّ من حماية مواطن الشغل الحالية وثانيا لا بدّ من مضاعفة فرص التشغيل خاصة بالمناطق المحرومة ولدى الفئات الهشة. أما المحور الثالث، فإنه لا بدّ من مزيد العناية بالحوافز لفائدة المؤسسات والمحور الرابع هو إعادة إدماج العملة الذين فقدوا عملهم وخامسا تنشيط التعاون بين المؤسسات الجامعية والمؤسسات الاقتصادية. وعلى الصعيد الجهوي، أرى أنه لا بد من اتخاذ اجراءات انتقائية أفضل من الدعم الشامل لكل الأنشطة الصناعية في الجهة المعنية بالدعم... فهذه الاجراءات لا يمكن أن تقتصر فقط على المؤسسات التي لا يتسنى لها التطور دون دعم. وينبغي أن يتجه التفكير في مثل هذه الظروف الى توفير مواطن عمل منتجة في الجهات والمناطق الأكثر فقرا في البلاد. الأمر الذي يؤدي الى اللامركزية والى التنمية الجهوية المحلية. فهدف اللامركزية لا يكمن في مجرد إعادة توزيع الصلاحيات بل في إدارة تحمل مسؤولية تحقيق أهداف التنمية على الصعيدين الجهوي والمحلي والتخفيف من عبء عمل الادارات. ولا بدّ في هذا الاطار من ملاءمة اجراءات سياسة التشغيل مع خصوصيات المناطق المستهدفة من تشجيع التشغيل واطلاع المؤسسات الاقتصادية عليها وتنقيحها عند الاقتضاء. ويبقى أهم عنصر هو ضرورة الفصل بين القرار السياسي والخيارات التنموية الجهوية وعدم استغلال التشغيل سواء وطنيا أو جهويا لخدمة مصالح سياسية معينة ولتلميع صورة النظام وصورة الرئيس مثلما كان يحصل في العهد البائد. هل توجد صيغ جديدة للتشغيل يمكن استغلالها اليوم في تونس للحدّ من أزمة البطالة؟ توجد بالفعل عدّة صيغ عمل جديدة لا بدّ من العناية بها على غرار العمل عن بعد ومهن الجوار والمهن القائمة على صناعة الذكاء والتوظيف المباشر والمزج بين العمل المؤجر والعمل غير المؤجر وتشجيع الأنشطة التطوعية وذلك حسب أشكال مختلفة تجمع بين التشغيل وموارد أخرى للدخل.