تتتالى الأيام في الذهيبة وتتشابه، ما بين موجة قصف وأخرى وتتعالى أصوات منبّهات سيارات الاسعاف التي تستغلّ الهدوء النسبي لتحمل الجرحى الى المستشفيات. والجرحى هنا يعدّون بالمئات خصوصا في صفوف الثوّار الذين يتعرضون يوميّا الى القصف بأسلحة فتّاكة صُنعت خصيصا لتواجه الطائرات والمدرّعات والمدفعية الثقيلة فترى كتائب القذافي ترجم بها مدنيين عزّل أو ثوّارا سلاحهم الوحيد رشاشات. ثلاثة عشر يوما مرّت على وجودي هنا، صرت أعرف وادي الروسة وجبل طويل الذهيبة والمحاميد والمشنڤة أكثر من شارع الحبيب بورقيبة ونهج مرسيليا بالعاصمة؟ صارت الجلسة اليومية مع الثوّار وشرب الشاي معهم من أمتع اللحظات، فأنت لا تعلم متى ومن أين سيأتي القصف؟ بين تونس وليبيا أقطع يوميّا مسافة مائتي متر أستمتع هناك بحديث الثوّار وبطولاتهم وأستعيد هنا ذكريات الطفولة مع أنداد لي من الحرس والجيش والديوانة والحماية وبين هذا وذاك تسقط الحدود فترى جواز السفر يفقد معناه. في استراحة المحارب هذه أطلق العنان الى خيالي فتراني أتصوّر نفس المشهد يحدث بين أربد في الأردن ودرعا في سوريا وفي سعداء في اليمن وفي جدّة بالسعودية وفي وجدة في المغرب ووهران في الجزائر، تراني أرى وأرى، لكن سرعان ما تنعدم الرؤيا بعد أن يتصاعد دخان القنابل ليغطي المعبر بأكمله ويتحوّل الى سحب كثيفة قد تمطر يوما ما حرّية وكرامة وديموقراطية. أتحوّل أنا الى كلّ والكلّ يتحوّل إلى أنا... تحميك أجساد لا تعرفها... تقف سدّا بيني وبين الرصاص هم لا يعرفونني وأنا لا أعرفهم، لكن أفكارنا تعرف بعضها البعض. نتوق جميعا الى وطن بلا حدود ويوم تحطّ الحرب أوزارها، نرغب أن يحيي المؤرّخون جثة الوطن ويشخصون مصدر الرصاص ويحدّدون هوية القنّاص. نودّ أن يلاحق المحامي والقاضي الجناة ومحترفي الارهاب. اللصّ والقاتل ورموز الاغتصاب. ... وللتضامن أبعاد أخرى في الأثناء تواصل المدّ التضامني للتونسيين، ليأخذ أبعادا أخرى تمثلت في حضور المحامين الشبان الى مدينة الذهيبة. جاؤوا محمّلين بالأدوية والأغذية والأغطية وكذلك بثقافتهم القانونية. ومع أنّ زيارتهم كان لها طابع إنساني، فإنّ ذلك لم يمنعهم من الاستماع الى الكثير من اللاجئين وما تعرّضوا له من اعتداءات من طرف كتائب القذافي. هذه الكتائب التي استباحت كل شيء، العرض والشرف والكرامة والأرواح والممتلكات استباحة تستوجب الملاحقة القضائية لذلك عمد المحامون الشبان الى تبسيط نصوص القانون الدولي لضحايا هذه الاعتداءات من اللاجئين حتى يتمكنوا من رفع قضايا على مجرمي الحرب من الذين انتهكوا كل الأعراف وارتكبوا فظاعات في حق مدنيين عزل من نساء وأطفال وشيوخ. فالحكايات التي تأتي من الضفة الأخرى للحدود مقرفة تتحدث عن اغتصابات جماعيّة لنساء على مرأى ومسمع من أهاليهم وعن عمليات قتل فظيعة يقوم بها المرتزقة باستعمال السكاكين لقطع الرؤوس وفصلها عن الأجساد بل وحرق الناس وهم أحياء. والحقيقة أن تحرّك المحامين الشبان كان متبوعا بتحرّك آخر قام به التقنيون السامون الفلاحيون الذين قدموا كذلك الى مدينة الذهيبة محمّلين بالأغذية والأغطية وكذلك بمعارفهم العلمية الفلاحية والبيطريّة. والجدير بالذكر أنّ مئات المزارعين الليبيين جاؤوا الى المنطقة مرفوقين بقطعانهم والتي وصل عدد رؤوسها الى أكثر من 000 . 10 رأس غنم انتشرت على طول الحدود ترعى في السهول وترتوي من الأدوية. وقد عبّر الفنيون التونسيون عن استعدادهم لفحص هذه القطعان ورعايتها بيطريّا ونصح المربّين الليبيين بنوعية العلف اللازم لخرفانهم. من مبعوثنا الخاص: الحبيب الميساوي