لا شيء أسهل من إطلاق خبر تنقصه الدقة أو إشاعة مغرضة أو شتيمة على صفحات الموقع الاجتماعي الذي يشغل التونسيين ليلا نهارا، صورة مفبركة أو فيديو مصطنع يتم إطلاقه على الموقع لتشويه سمعة شخص أو تيار سياسي، فيحدث ما يحدث من الأضرار ويتناقله الآلاف في لحظات على أنه حقيقة مطلقة، لكن دون أي أمل جدي في إصلاح الخطإ أو تدارك ما فات. إنه الوجه السيئ لهذا الموقع الاجتماعي الذي يعد حاليا أكثر من 2.4 مليون من المنخرطين التونسيين، هذا الموقع الذي اكتسب منذ أعوام بفعل تكبيل الإعلام المحترف شرعية شعبية كبيرة ضاعفها دوره الكبير إبان الثورة التونسية في تحريك الشباب واستمرار التواصل بين الناس، وفضح الممارسات القمعية ونشر الحقائق الخفية وغيرها من خدمات الاتصال. أما اليوم، فقد وقع هذا الموقع الظاهرة ضحية نجاحه الساحق وأصبح وعاء لنشر وتداول الأخبار الزائفة أو التي تنقصها الدقة، لحملات التشويه ضد الأشخاص والمؤسسات، ولنشر المعلومات الخاصة والشخصية التي لا قيمة لها في الفضاء العام سوى استهداف شخص محدد وإحراجه أو الضغط عليه. لن نتطرق إلى المشاكل المتوقعة منذ البداية مثل انتهاك الحياة الخاصة ونشر التفاصيل الحميمة، حيث اكتوى الكثيرون بنار الصور الخاصة والحميمية سواء كانت حقيقية أو مفبركة، ورؤية تفاصيل خاصة من حياتهم منشورة للعموم، بل عن التوظيف السيئ لهذا الموقع الذي بدأت أضراره تصيب الثورة نفسها. هويات وهمية وفر فايس بوك إغراء السبق الإعلامي، مع إغراء وإغواء الشهرة، مما جعل العديد من الصحفيين المحترفين يتورطون في تداول أخبار ومعلومات وصور ومشاهد فيديو سريعا ما يتبين أنها مفبركة أو أن التعاليق المرافقة لها تنقصها الدقة وأحيانا كثيرة زائفة أو لا علاقة لها بموضوع الصور. كما شهد «فايس بوك» التونسي في المدة الأخيرة ظهور «مندسين» بهويات وهمية أو حركية للاندساس في صفحات الأصدقاء وبث الأخبار الزائفة ضد تيار سياسي معين أو زعامات سياسية ونقابية. يقول لنا مهندس إعلامية شاب في العاصمة: «أعتقد أن العدد الحقيقي للهويات المنخرطة في فايس بوك لا يزيد عن مليون ونصف، وأن الباقي هي هويات وهمية أو غير موجودة إلا بالاسم». يضيف محدثنا أنه لاحظ في المدة الأخيرة بعد الثورة ظهور الآلاف من الهويات والصفحات التي تدفع إلى الشك في حقيقتها، عند التثبت في المعلومات التي يتركها أصحابها على صفحتهم، أي أنها معلومات منقوصة أو متضاربة، ثم بالنظر إلى محتوى ما يبثونه، نكتشف أنه موجه ضد تيار سياسي معروف، بما يدفع إلى الاستنتاج أنها هويات وهمية لا هدف منها سوى الاندساس بين المنخرطين لمهاجمة طرف معين ثم محو تلك الهوية عند انكشاف أمرها. لا يتطلب إحداث صفحة على فايس بوك سوى بضع دقائق بعد إحداث عنوان بريدي قد يكون وهميا أيضا. بعدها ينطلق مؤسس تلك الصفحة في اقتراف ما يريد معتمدا على احساسه بأنه غير خاضع للمحاسبة أو المساءلة، لأن الهوية التي تركها لا تدل على شيء من هويته الحقيقية، ثم إن بإمكانه أن ينكر أصلا أن يكون صاحب تلك الهوية حتى وإن كانت حقيقية بحجة أن أي شخص بإمكانه أن ينتحل أية هوية يريد. ومن الناحية العملية، يمكن لأي شخص أن يستولي على صورة رئيس الدولة المؤقت وأن يحدث صفحة باسمه في لحظات، ومن الناحية القانونية تصعب محاسبة من يفعل ذلك لصعوبة إثبات الجريمة في عالم افتراضي. صحافة المواطنة والحرفية منذ بداية ظهور هذا النوع من الإعلام الذي يطلق عليه «صحافة المواطنة»، حذر خبراء الإعلام من مخاطرها التي لا تحصى مذكرين بأن الإعلام ما يزال مهنة لها قواعدها وعلومها. المواطن العادي الذي يتحول في ساعات فراغه الليلية إلى إعلامي ينشر كل ما لديه على صفحته في موقع فايس بوك، لا ينتبه إلى القواعد العلمية الأساسية للتحقق من صحة المعلومة، ولا إلى ضرورة الفصل بين انطباعاته الشخصية وبين مكونات الخبر، كما لا ينتبه إلى أن الفضاء العام لا يحتمل نشر المسائل الشخصية للناس لأن في ذلك انتهاكا لحقوقهم الأساسية. المواطن العادي الذي يحول نفسه إلى إعلامي في ساعات فراغه لا يفرق بين حديث المقهى والإعلام، ففي المقهى، يقتصر الحديث على شخصين أو أكثر قليلا، يتبادلان المعلومات حول شخص ثالث يعرفانه، ثم ينصرفان. أما على الشبكة، فإن حديث المقهى يتحول إلى حقيقة ثابتة يتداولها ملايين الناس أحيانا، كما أنه يصعب كثيرا محو آثارها لأن الصور ومقاطع الفيديو مثلا تنتقل من الشبكة إلى الحواسيب الشخصية لآلاف أو ملايين الناس. وفي المقابل، فإن الصحفي التقليدي، يعرف جيدا أن قانون الصحافة والقانون الجنائي يترصدانه عند أدنى إخلال مخالفة، على عكس ملايين الأشخاص الذين ينشرون كل شيء دون أدنى خوف من المحاسبة. إن غياب الإعلام المحترف بسبب التكبيل الذي عاناه طيلة عقود قد أدى إلى فقدانه مصداقيته لدى التونسيين، لذلك استجاب موقع فايس بوك في وقت قصير إلى حاجة الناس إلى تواصل وإعلام آخر، لكنه فتح على الناس باب عواصف يدفع الكثيرون ثمنها من سمعتهم وأخلاقهم. ما كان يقال همسا في المجالس الخاصة أصبح ينشر دون تثبت أو تمحيص في الفضاء العام. صحيح أننا تمكنا من معرفة الكثير مما كان مخفيا عنا، لكننا في نفس الوقت استهلكنا أخبارا زائفة كثيرة، وأخرى تنقصها الكثير من الدقة، بالإضافة إلى الفضائح الشخصية التي لا مبرر لوجودها في الفضاء العام أصلا. المثير للدهشة هو تورط العديد من الزملاء الصحفيين في نشر وتداول أخبار تنقصها الكثير من الدقة والحرفية، مدفوعين بإغراء السبق الصحفي، وبالرغبة في المتابعة، فيما الواقع يدعونا نحن الصحفيون إلى المبادرة بعقلنة أخبار المواقع الاجتماعية وإخضاعها للقواعد المهنية والترفع عن نشر الأخبار الشخصية التي لا تهم الفضاء العام وعن التورط في الحملات الإعلامية التي تستهدف أطرافا سياسية دون غيرها في إطار حرب الأحزاب والتيارات التي انفتحت فجأة على الفضاء الافتراضي.