عديدة هي الرسائل التي أبرق بها الوزير الأوّل باجي قائد السبسي إلى مختلف الفاعلين السياسيين ولوبيات الحياة السياسيّة الوطنيّة، فبعد التصريح التلفزي الأخير والذي حمل العديد من المحدّدات والضوابط برغم «حدّته» تجاه شخص فرحات الراجحي، فقد نشط الوزير الأوّل على أكثر من صعيد واتّضح من خلال سلسلة اللقاءات التي أجراها هذا الأسبوع أنّ الرجل ماض في تجسيد رؤية سياسيّة لإعادة تهدئة الأوضاع وربط خيوط التواصل مع مختلف الأطراف الوطنيّة الفاعلة على الساحة. وكأنّ الوزير الأوّل قد أعاد تشكيل ركح المشهد السياسي بما فيه من شخوص وفعاليات وقوى استقطاب وتجاذب على قاعدة المساعدة على قيادة اتجاهات الرأي العام وتحديد أولويات الصراع السياسي والحزبي وضبط ملامح المرحلة السياسيّة المقبلة بما فيها ربّما من تحالفات أو جبهات أو ائتلافات. العجز الّذي أبدته القوى الوطنيّة من نخب وأحزاب في تهدئة خواطر الناس وضبط أولويات التحرّك السياسي في علاقة بمستلزمات إنهاء المرحلة الانتقاليّة والإعداد الجيّد لاستعادة شرعيّة الحكم والدولة من أكبر الأسباب التي تقف وراء هذا التدخّل الحازم والصارم من باجي قائد السبسي لإعادة ترتيب الأوضاع وإعطاء مؤشرات لما يُمكن أن يكون عليه المشهد السياسي القادم في إطار تغليب المصلحة الوطنيّة والقطع مع حالات الانفلات الأمني والصخب السياسي والحزبي والإيديولوجي وفوضى الشارع. وضع الوزير الأوّل ملامح لسيناريو مُمكن أن تشتغل عليه مختلف القوى والأحزاب الوطنيّة مُستقبلا ، طبيعة اللقاءات الفرديّة والجماعية وانتماءات الوجوه السياسية الّتي التقاها الباجي تحدّد إلى درجة كبيرة دراية ودربة وحنكة سياسيّة واسعة ، انتقى الباجي إلى صفّه عددا من القوى التي لا يبدو أنّها متوافقة ايديولوجيا وسياسيّا وفي ذلك صناعة سياسيّة في غاية الدقّة وهدف كذلك إلى عزل قوى أخرى، ربّما لم يحن بعد وقت وزمن الالتقاء بها، وفي ذلك الانتقاء والعزل تختفي رؤية لرجل دولة يسعى لترك بصمات لفعله السياسي ، بصمات من المؤكد ومثلما عكست ذلك تصريحات راشد الغنوشي ومحمّد الكيلاني وأحمد إبراهيم وميّة الجريبي ومصطفى بن جعفر تؤسّس لتوافق وطني واسع وجاد لإنجاح المحطّات السياسيّة والانتخابيّة القادمة ومُلامسة مناخ الأمن والاستقرار المساعد على تحقيق ذلك واستعادة نسق الحياة الاجتماعية والاقتصاديّة إلى مربّعها المعتاد بعيدا عن كلّ المخاوف والتوجّسات والرهبة. على مدار أشهر طويلة تشظّت الحياة السياسيّة وتراكمت وسطها العديد من المزالق والنقاط السوداء واحتدمت درجة الاستقطاب السياسي والبحث عن التموقع داخل المشهد السياسي الوطني إلى درجة بلغت حدّ العنف والعنف المُضاد وأشّرت على أفق مظلم ربّما يعصفُ بالثورة وأحلامها،وكانت رسائل الوزير الأوّل واضحة ودقيقة في مسعى لإعادة ترتيب الأوراق لا خلطها من منطلق رجل الدولة الّذي له مسؤوليّة تاريخيّة فارقة بدوره في إيقاف النزيف ووقف كلّ مظاهر تدهور الحياة السياسية أو الأمنيّة والاجتماعيّة.