خطاب الوزير الأوّل الأخير كان حاملا للعديد من الرسائل السياسية الهامّة، ومن أبرز هذه الرسائل دعوة الأحزاب والنخبة الى المساهمة بجهدها في استتباب واقع الأمن والمرور بالبلاد نحو آفاق أرحب للاستقرار وتحقيق تطلعات ثورة 14 جانفي. وهذه الرسالة مهمّة من حيث أنّها توجّه الأنظار نحو واقع كثيرا ما تلبّس بجلّ الأحزاب السياسية وكذلك النخب عنوانه أو خاصيتهُ الأبرز الانقطاع عن واقع الناس ومشاغلهم، ولئن دعا باجي قائد السبسي هؤلاء الى المساعدة والقيام بمهامهم في التأطير ودفع الناس والمواطنين الى الالتفاف حول المشروع الاصلاحي والديمقراطي الّذي تعرفهُ البلاد للقطع مع الماضي وبناء صورة جديدة للحياة الوطنية بعيدا عن كلّ مظاهر التوتّر والعنف والاضطراب، فانّه قد دعا وان بشكل ضمني تلك الأحزاب على وجه الخصوص الى اغتنام هذه الفرص الاجتماعيّة والاقتصاديّة من أجل تمتين قاعدتها من المناضلين والمناصرين وحسن استمالتهم لبرامجهم وطروحاتهم استعدادا للمواعيد الانتخابيّة القادمة. والحقيقة فإن أداء الأحزاب السياسيّة في مثل هذه المرحلة الدقيقة من عمر البلاد يحتاج الى تحفيز مضاعف وإلى حراك جديد، حراك يبتعد عن منطق الانتهازيّة والشعاراتيّة واللغة الخشبيّة لأنّ التونسيين اليوم غدوا مهتمين بجلّ تفاصيل الشأن السياسي وهم واعون بعمق التحوّلات الحاصلة محليّا واقليميّا وهم ينتظرون من هذه الأحزاب وهذه النخب أن تُقدّم لهم برامج وبدائل وتصوّرات واضحة ودقيقة تخدم مستقبل البلاد وترفّع درجة التنمية والتطوّر في مختلف الجهات وليشمل كلّ الفئات. الى حدّ اليوم لا تزال النخبة وجلّ الأحزاب حبيسة الخلافات الايديولوجيّة والعقائديّة وهي بسلوكها ذاك تضيع عن البلاد فرصا للاستفادة من بريق الثورة لغايات تنموية واقتصادية واجتماعية عبر جلب المستثمرين وتوفير المناخ الملائم لمشاريعهم واستقطاب السياح وهي كذلك تضيع عن نفسها مجالات واسعة للانتشار الجماهيري وكسب الأنصار. انّ ما يحتاجهُ الناس اليوم هو أن تُقدّم لهم الحلول والبدائل الّتي يُمكن أن تخرج البلاد من أزماتها وأن توجد الأمل في تحسين ظروف العيش وتحقيق موارد الرزق ومواطن الشغل لطالبيها وخاصة من الشباب الحاصل لشهائد جامعيّة عليا. على الأحزاب أن تتخلّى اليوم على خلافاتها الايديولوجية وأن تنكبّ كلّها على المشاغل الوطنية الكبرى بعيدا عن كلّ النظرات الضيّقة وعلى النخبة كذلك أن تترك تنظيراتها وانتماءاتها الفئويّة ومصالحها جنبا وأن تدفع هي الأخرى الى تعزيز روح الوفاق الوطني وتأمين الظروف الملائمة لكي تصل الثورة الى شاطئ الأمان، على هذه النخبة أن تقول «خيرا» أو هي مُطالبة بأن تصمُت عن جدلها العقيم وفلسفتها الموغلة في الكثير من الأحيان في النرجسيّة الذاتية والهوس الذاتي والبحث عن الزعامتيّة وبهرج الأضواء، كما أنّ على الأحزاب أن تقوم بما هو مطلوب منها في تأطير الناس والمساهمة في تقديم التصورات والبدائل القادرة على خدمة الصالح العام لا المعطى الحزبي الضيّق.