بقلم : فاطمة بن عبد الله الكرّاي بداية ثمانينات القرن الماضي ولمّا كان الشعب التونسي بكل فئاته العمالية والمثقّفة والفلاّحين المغمورين يلملم جراح أحداث جانفي 1978 ويستعد دون أن يكون قد خطّط لذلك فعلا، الى «ثورة الخبز» سطع نجم الفرق الموسيقية مثل «البحث الموسيقي» و«أولاد المناجم» ثم «الحمائم البيض» دون أن نستثني أسماء الأغنية الفردية الملتزمة مثل «الهادي قلّة» و«الزين الصافي» و«آمال الحمروني»... أذكر في ما أذكر أغنية «أولاد المناجم» من قفصة، وهم يردّدون أغنية شهيرة ومعبّرة طالعها كالآتي بدارجة الكلام التونسي: «لو كان ما يحبّونا... ألمان وأمريكا... وفرنسيس ما يزورونا»... كانت الأغنية تعبّر في الآن نفسه عن أمرين: الأمر الأول أن القوى الغربية والاستعمارية والامبريالية، والتي اختارت منها الأغنية ثالوث الدول المذكورة، تأتي الى تونس وتزورنا في بلادنا تحت عباءة سياسية واقتصادية، فيها «سياسة انقاذ» تعتمدها هذه الدول تجاه تونس، حتى لا «تفلت» بلادنا من قبضة المنظومة الليبرالية التي تعتمد اقتصاد السوق نحو المنظومة الموازية وأقصد شق الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي والمعتمدة على الاقتصاد الموجه... وبالتالي بدت الاغنية ومن خلال طابعها الهزلي الناقد وكأنها تكشف بأن لهؤلاء مصلحة: مصلحة في نهب الثروات المنجمية، وأقصد الفسفاط الذي لا يزال الى اليوم يستخرج ويسوّق كما عهدنا بالاستعمار الفرنسي، فهو مادة وثروة لا تخضع للتصنيع ولا للتكرير بل يسوّق الى خارج الحدود مادة خاما... أما الأمر الثاني الذي كانت تعبّر عنه أغنية «أولاد المناجم» المشار اليها، فهو يعني السياحة... وأن هذا القطاع الخدماتي الذي لا يرتكز عليه اقتصاد بلد، بل هو قطاع مكمّل للصناعة وللفلاحة... وغيرهما، اذن هذا القطاع الذي يجلب لنا السيّاح الأجانب، إنما هو نافع للقادم من «الألمان والفرنسيس والأمريكان» بشمس وهواء بلادنا... وكذلك من خلال تدنّي أسعار الخدمات السياحية في تونس مقابل جودة الخدمات المقدّمة لهم... هذه الأغنية تذكّرتها مرتين بعد الثورة : مرة عندما بدأت الصحافة الغربية تكشف مدى تورّط سياسيين من وزراء وما فوق الوزارة بقليل، في البلدان الغربية في قضايا فساد مع النظام التونسي السابق... وبالتالي فإن الذين يهلّلون اليوم من القوى الغربية لثورة تونس إنما هم أنفسهم الذين كانوا يسندون بن علي وبورقيبة من قبله... ولم تكن تهمّهم في شيء المسألة الديمقراطية والاقتصاد الوطني المبني على خيارات وطنية وسياسات تقدمية، مثلما هو الشأن في «الشيلي» وفي «البرازيل» اليوم بعد هذه الثورات الديمقراطية الحقيقية... فهذه الوزيرة وصل بها الأمر حد قبول «رشوة» حتى يواصل بن علي كبت الحريات وتكميم الأفواه... وهذا مسؤول سياسي آخر في نفس البلد تكشف صحافة الاستقصاء عن تورطه في فساد سياسي ومالي مرتبط بنظام بن علي! «لو كان ما يحبّونا... ألمان وأمريكان وفرنسيس ما يزورونا»... هكذا ردّدنا في بداية الثمانينات مع «أولاد المناجم»... وهكذا يحقّ للشعب التونسي أن يردّد وهو يستهزئ بهذا اللفيف الذي يطالعنا في كل مرة بكلمات منمّقة حول ثورتنا... وحول ما يجب أن نفعل بهذه الثورة... لكننا نقول ورغم كل هذا : مازلنا نعرف... ونعي حدود وأهداف ومرامي «حبّهم» لنا... وإننا نعفيهم من مثل هذا «الحب»...