(1) في الزّمن الذي يصعد فيه نجم القرضاوي في تونس, تنسى الجموع في بلادنا كل تراثها الفكري النير من داخل التفكير في الإسلام ومن داخل المذهب السني المالكي المعتدل، وتهرع هذه الجموع إلى الإنصات وإلى الإمتثال إلى صوت القرضاوي كعالم مفلق وعلامة لا يشق له غبار في رسم الخيط الفاصل ما بين الحق والباطل وما بين الإيمان والكفر وبين التوحيد والشرك. وكأن البلاد التونسية لم تكن في تاريخها العريض منارة للفكر وللحضارة الإسلامية المشرقة ، بل لكأن تونس اكتشفت الإسلام فجأة حين شاهدت الجموع الشيخ القرضاوي في قناة الجزيرة.. ويذكرني هذا الاكتساح المنظم الذي يقوده القرضاوي لعقول الجموع في تونس بما حدث منذ أكثر من ثلاثة عقود حين تمّ تحويط عقول الجموع في الجزائر التي ارتكب النظام الجزائري فيها باسم التعريب تكريس تلك العقلية المتحجرة التي قادها أشباه فقهاء أزهريين ومدرسين فاشلين في الجامعات والمعاهد الجزائرية فأخرجوا ما أخرجوا من جحافل حرقت الزرع وبقرت الضرع باسم الإسلام وامتلاك الحقيقة.. وهوذا القرضاوي يجد في تونس الآن حقلا خصبا وأذرعا مفتوحة لبسط فكره «النير» في العقول . (2) وقد تشهد الأيام القليلة القادمة زيارة القرضاوي إلى تونس في استضافة لحركة النهضة ويبدو أن هذا الموعد كان سيتزامن مع الحملة الانتخابية للمجلس التأسيسي، الشيء الذي يخدم بشكل دعائي ما تسعى إليه الحركة في كسب مزيد من الأنصار، خاصّة وأن القرضاوي يتمتع كما أشرنا بنجومية لا تُضاهى بفضل سنده الإعلامي القويّ الذي تمثله قناة الجزيرة التي تحوّلت منذ الثورة إلى منبر عريض لخدمة الإسلام السّياسي في تونس، وتبكيت كل صوت عقلاني أومواطني أوحقوقي أوعلماني .. ولا ندري كيف يستطيع القرضاوي أن يرتّب تناقضاته الصّارخة في علاقته بتونس وأن يسمح لنفسه بلعب دور هوفي الحقيقة غير معني به. خاصّة وأن الرّجل جند نفسه منذ زمان لمحاربة البلاد على أساس أن تونس ليست بالبلد المسلم ومن الواجب إعادة فتحها فتحا إسلاميا، ثم لا يلبث في التراجع عن تلك الأقوال عند مشاركته بفعاليات القيروان عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2009 بوصفه رئيسا للإتحاد العام لعلماء المسلمين، فيمتدح النظام التونسي – نظام المخلوع – ويشيد بإسلامه وتقواها مثمّنا إسلام بن علي وجهود الحكومة في رعاية الإسلام وأهله و ممتدحا إذاعة الزيتونة للقرآن وبنك الزيتونة الإسلامي كإحدى مفاخر بن علي وهي كما جاء في تصريحه في قناة سبعة « هذه أشياء تحمد لتونس ولسيادة الرئيس بن علي». وتشير بعض المصادر أن القرضاوي على إثر تلك الزيارة قد تلقى أموالا من نظام المخلوع حتى يخفف الضّغط على الهجومات التي تشنّها قناة الجزيرة على النظام مقابل تقديم بعض التنازلات التي يقدمها الجنرال بحكم التدين التونسي الجديد الذي يقوده صهره صخر الماطري للإسلاميين في تونس ، ثم أن القرضاوي يهلل عند سقوط الجنرال والذي يدعوسقوطه ب«بسقوط الصنم الأكبر هبل». لا أفهم كيف يتلون القرضاوي، وكيف يغير كما نقول في تونس « لحية بلحية «، اللهم شيئا واحدا يجعله على هذا القدر من البهلوانية المستندة لإسلام السّوق والإسلام المتاجر والمضاربات البترودولارية . (3) ونريد أن نوضح في هذا الأسطرلاب أن حضور القرضاوي في تونس نسف للمكتسبات والحريات التي حققها الشعب التونسي طوال عقود في تقاليد الحريات ورفض الوصاية والتمسك بالمساواة بين الرجل والمرأة وبثقافة المواطنة والحقوق، وحضوره هو عبث بكل ما قدّم الشّعب التونسي من تضحيات من أجل الكرامة والتقدم والتعليم التنويري وهوإلغاء أيضا للدور التنويري والإصلاحي الذي قام به علماء تونس منذ القرن التاسع عشر من أجل إسلام متنور ومواكب لحراك التاريخ . وحضوره يعني التخلي التام على حق التونسيين في ترتيب أمورهم. ومن المفروض أن يعتذر القرضاوي للشعب التونسي إن كان صادقا عن ذلك التناقض في المواقف الذي يبديه في علاقته بتونس ولعل أقلها الاعتذار للنخب الفكرية والإبداعية التي لا يتورّع القرضاوي في تكفيرها. لذلك نقول أن زيارته المرتقبة غير مرحب بها في تونس، فشق كبير من التونسيين يعتبرون زيارته تدخلا في الشأن العام التونسي وترجيحا لكفة فئة سياسية عن فئة أخرى، وزيارته تحاملا على مرجعيات البلد الفكرية والثقافية والحقوقية وحتى الدينية . (4) وما يؤسف له أن القرضاوي يتمتّع بجمهور عريض حوّله طوال سنوات إلى دواوين حسبة تراقب العباد وترهبهم باسم الدفاع عن الإسلام، وهم منتشرون حتى في المواقع الإجتماعية يتلصصون على العباد ويصادرون أفكارهم، وقد حدث أنني علقت في موقع الفايس بووك على رابط يخص القرضاوي محاورا الدكتورة رجاء بن سلامة، حتّى تدخّل شخص تونسي يعيش في فرنسا ليهددني شخصيا لأنني ذكّرت مخاطبتي بالحادثة التاريخية المتعلقة بمساندة القرضاوي لفتوى عبد العزيز بن باز مفتي الديار السعودية حين أهدر دم الزّعيم بورقيبة في سبعينات القرن الماضي، وكيف أن بن باز الوهابي كان من أساتذة أسامة بن لادن.. ويعلم العارفون أيضا كيف أن أسامة بن لادن كفر شيخه عبد العزيز بن باز حين صمت هذا الأخير على التنديد بحضور الأمريكان المارينز على أرض الجزيرة العربية حين اعتبر بن لادن هذا الحضور على أرض الجزيرة تدنيس للتراب المقدّس، وأن جملة هذه الأحداث مذكورة في كتاب « ميثاق نجد» Le Pacte de Najd للمفكر التونسي حمّادي الرّديسي .. وأذكر أن هذا الشخص كتب مخاطبا إياي : «والله ثم والله سأستعمل معك شخصيا لغة سوف تفهمها..ولا تقترب من النار، فالنار حارقة ولا تكن (كلام بذيء) فالشرف له غاسل».. والمعنى في هذه اللغة التهديدية واضح ومعروف عند التونسيين جيدا ولا أملك إلا أن أرد عليه بمقولة السهروردي المقتول والممنوع من التفكير « إن ترشني بالنار، أرشّك بالنور». (5) أقول هذا الكلام وأنا أجوب المكتبات في تونس المكتظة بالكتب والفتاوى الدينية القادمة علينا من الشرق والعابقة بعطور الموتى ، ولقد حدث وأن زرت الأسبوع الماضي مكتبة في العاصمة فتلقفتني إحدى العاملات فيها لتعلمني بحماس بأن المكتبة تملك الأعمال الكاملة للشيخ القرضاوي وكتب الشيخ الطنطاوي وبن الجوزية وأبن تيمية، وهي كتب بأسعار مناسبة. وأخبرتني أنها « تموت على القرضاوي» وأنها قرأت جل كتبه. فسألتها هل تبيعون في المكتبة «التحرير والتنوير» لابن عاشور؟ فأجابتني بأن عياض بن عاشور لا تباع كتبه هنا، فشكرتها، وهرعت خارج المكتبة لا ألوي على شيء، وكادت تدهسني سيارة نزقة يسوقها رجل ملتح شبيه بالقرضاوي صرخ فيّ « أعماك الله يا ..» فشكرته في قلبي على صيحته القيامية تلك التي أنقذتني من الموت حتف أنفي.. ورددت في نفسي إتقاء من صدمة الحادث المروري مقاطع من « تمرين على كتابة يوم الجمعة 14 جانفي» للشاعر الكبير المنصف الوهايبي.