رحل، قبل أيّام قليلة، الشّاعر اللبنانيّ «فؤاد رفقة» ومضى صوب الضفة الأخرى، دون أن تواكب رحيله ضجّة إعلاميّة كبرى. وهذا الشاعر يعدّ من أهمّ شعراء مجلّة «شعر»، وأبصرهم بمسائل الفكر والفلسفة ،وأكثرهم انفتاحا على الثقافة الألمانيّة.ولد في سوريا سنة 1930، ونشر أوّل مجاميعه الشعريّة «مرساة على الخليج» عن دار مجلّة «شعر» سنة 1960 وناقش أطروحة حول فلسفة «هيدغر» في جامعة «توبنغن» الألمانيّة سنة 1965، ثمّ التحق بالجامعة الأمريكيّة أستاذا محاضرا .نشر تسعة كتب شعريّة كان آخرها «محدلة الموت». مثل فؤاد رفقة، كما قال النّاقد سلمان بختي، «صوت الحساسيّة الوجوديّة في الشعر العربيّ الحديث... فعلى هدي الشّاعر الألمانيّ هولدرلين حاول الوصول إلى أعماق التجربة الشعريّة بوصفها تجربة نبوئيّة رائية «غايتها الأولى كسر قشرة العالم والدخول إلى الجوهر». لهذا كان فؤاد رفقة صوتا مفردا في مجلّة «شعر» يقلّده الكثير من شعرائها ولا يقلّد أحدا منهم. كان مثابرا على الكتابة مثابرة «النّحلة على صنع عسلها» على حدّ عبارة البعض ،يحاول أن يختزل القصيدة في سطور والسطور في كلمات، تماما مثلما كان يفعل الشعراء اليابانيون من خلال قصائد «الهايكو». وإنّه لأمر ذو دلالة أن يسم أحد دواوينه ب«تمارين على الهايكو». فهذا الشّاعر لم يكن يكتب القصيدة وإنّما كان يقطّر كلماتها تقطيرا، فيستبعد أكثر ممّا يستبقي، ويمحو أكثر ممّا يثبت، فلا ضجيج إيقاعيّ في شعره، لا زوائد بلاغيّة، لا فضول لغويّ، فهذا الشاعر ظلّ يطمح إلى كتابة الشعر الأنقى والأصفى...الشعر الذي يقول المعنى الأكثر في اللفظ الأقلّ على حدّ عبارة نقّادنا القدامى. أمّا السؤال الأكبر الذي دارت عليه قصائده فهو سؤال الموت، الموت بوصفه تجربة في الحياة، مصدرا من مصادر الكتابة، قادحا من قوادح الشعر. كتب في إحدى مجموعاته: قناع أغبر: منْ أنت؟ /صاحب الأرض ماذا تريد؟ أنْ تخلي المكان ../لمن؟ / لمستأجر آخر... لكنّ الشّاعر يجثو على ركبتيه متوسّلا : لو تنتظر .../فأنتهي من قصّة.../تبقى منها أحرف.../فاصلة ونقطة أخيرة... لكنّ هذا «المنجل الأعمى »، كما جاء في قصائد الشّاعر، لن يلقي بالا للشاعر إذ يتضرّع، لن يصغي َإلى توسّلاته، فثمّة، وراء السياج، زهور ينبغي أن يقتطفها ، أعني أن يحصدها... لهذا السبب كانت قصائد فؤاد رفقة، كما يقول الشاعر شوقي بزيع، ذات منشإ خريفيّ لاصلة لها بالفرح والسعادة والإقبال الشهواني على الحياة. ثمّة أوراق صفراء تتساقط من أشجار كئيبة شبيهة بتلك التي تتسامق شاهقة بين المقابر... ثمّة موسيقى حزينة يعرفها بشر غامضو الطقوس استعدادا لوصول جنازة لن تصل أبدا... لم يكن فؤاد رفقة شاعرا وأكاديميّا فحسب وإنّما كان مترجما أيضا. بل انه يعدّ، في نظر الشاعر عبده وازن، من أوائل الذين عرّفوا القارئ العربيّ بالشعراء الألمان من أمثال تراكل وهلدرلين وريلكه وقد أحسّ، في آخر حياته، أن ترجماته قد أصابتها الشيخوخة، على حدّ عبارة الشاعر وازن، «فشرع يعاود ترجمة الترجمات، متحاشيا الهنات التي ارتكبها والشراك التي وقع فيها... الترجمة كانت لديه أصلا أشبه بمشروع انكبّ عليه باكرا...». لملم الشاعر قصائده ومضى صامتا وهادئا إلى بيته الآخر بعد أن فتح القصيدة الحديثة على الأسئلة الفلسفيّة. فليس للشعر، في نظره، زمن وللفكر زمن آخر وإنّما هناك زمن واحد هو زمن التجربة الإنسانيّة الّذي يؤاخي بين ذينك الزمنين ويجمع بينهما جمع تلاؤم واسجام... هذا الشاعر ظلّ مجهولا في بلادنا مع أنّ هناك شعراء دون كبير موهبة فاقوه فيها شهرة وسعة انتشار... وقد تكون هذه المناسبة، مناسبة وفاته، فرصة لاكتشافه أو إعادة اكتشافه.