بقلم: الأستاذ نبيل بن فرج (بنزرت) لما انتفض الشعب التونسي وقام بثورته المجيدة من أجل القضاء على نظام ظالم وفاسد، خلق حوله تصحرا فكريا وثقافيا فقد عقد العزم على القطع مع الأساليب القديمة البالية في العمل والتخطيط والتنظيم لمستقبل أراده شباب الثورة ناصعا ومشرقا ومدرا للخيرات ومؤسسا لإنسان جديد واع بنفسه وبمحيطه وبحجم ونقل رسالته. فمطامح ثورة الشعب التونسي كانت جامحة وطوفانية في عفويتها لانعدام تأطيرها والتنظير لها من قبل أي من الأحزاب «الشرعية التقليدية» أو «السرية» (غير المعترف بها)، وهي لذلك تأبى المساس بحرمتها والالتفاف عليها من قبل الطامحين للسلطة لافتكاك نصيبهم من «الكعكة» التي لم يبدعوها، بتقمص أدوار ومهمات لم يكلفهم بها الشعب المنتفض وادعائهم تمثيله والتزامهم بتحقيق ارادته وتوقه الى الحرية والعدالة والكرامة وهي أطروحات وأفكار سياسية لا تخلو من برامج كل الأحزاب المتواجدة في الساحة والمتشابهة في نمطية مقلقة تكشف عن ارتباك وتحفز النخبة الى القيام بدورها الطبيعي والريادي في تمثيل الشعب وقيادة نضالاته بعد ابعادها وقمعها بشل حركتها والحيلولة بينها وبين ما يعد من سقف مطالبها السياسية الذي حققته لها فجأة جماهير كادحة ومعطلة عن العمل فاقدة لأدنى مقومات الكرامة فتجاوزتها حينئذ ولقنتها درسا في الشجاعة وتجاوز الذاتي والشخصي ومن ثمة تربعوا داخل مجلس «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح الديمقراطي» وباتوا ينظرون لمستقبل البلاد ويطعنون في شرعية الحكومة المؤقتة التي رخصت لهم بالتواجد القانوني وغاب عنهم بأن شرعيتهم مرتهنة بلا شرعية مؤقتة في ظل تجميد العمل بالدستور» ومرحبا بالثورة نجني ثمارها في ظل تململ واعتصامات واضطرابات شملت عديد القطاعات الحيوية ومظاهرات عمت الشارع التونسي تتسم بالمطلبية الملحة التي أحرجت الحكومة المؤقتة والذين بيدهم السلطة والقرار وأثبتت لهم بأن جذوة ثورة تونس لم تخمد كما أن رياح الحرية باقية بين منعطفات الشوارع والأزقة الحالمة وتذكي روح المبادرة الخلاقة وارادة الحياة بكرامة وفي دفئ الوطن. وفي هذا الاطار فقد حتمت ضرورة الابقاء على الحد الأدنى من استمرار سلطة الدولة وضمان بقاء شكلي للمؤسسات حتى وان خلت من المضمون الثوري أو الاصلاحي ايداع وخلق نموذج سياسي لا يختلف كثيرا عن المدرسة «الدادانية» dadaisme في الفن التشكيلي التي تسعى على الاستعانة بأدوات وأشياء وملصقات مختلفة وغير متجانسة توضع على سطح اللوحة الزيتية الى جانب الألوان فتضفي جمالا وابداعا ورونقا يثير الدهشة والانبهار وكذلك الارتياح، وهو ذات الانطباع الذي يتجلى من تركيبة «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح الديمقراطي» في اطباق سياسية غير متجانسة وأشخاص غرباء عن الثورة وشخصيات «وطنية» مملة ومقرفة جيء بها لتأثيث جهاز ممثل للثورة «لا شرعية له»، هو في الواقع فسيفساء متشضات متناثرة تماما كما أبدع CHRISTIAN TZARA «خلال سنة 1916 مؤسس الدادانية» في تلمس طريقة حديثة وثورية في الرسم بالإيحاء لارباك المشاهد وحثه على التفكير. وعلى شاكلة النمط الابداعي المذكور مكنت التركيبة الانتقالية للسلطة المؤقتة التي طبخت على صفيحة الفصل 56 من الدستور البائد من خلق «مجلس تحقيق أهداف الثورة» عوضا عن «لجان حماية الثورة» في مستوى الجهات التي تكونت بصورة لصيقة بالأحداث التي اعقبت غياب الأمن بناءا على المعرفة الشخصية بمكونات القوى الثائرة وتلتها «لجنة تقصي الحقائق ومقاومة الفساد»، «لجنة الاصلاح الدستوري»، تتركب من رؤساء وأعضاء غرباء عن حركية ونضالات الشارع التونسي ولا ندري وفق أية معايير تم تعيينهم؟ وبالتالي مدى شرعية المجالس التي ضمتهم؟ مما يجعل الملاحظ الفطن يشكك في صحة ووجاهة ما يحبك داخل تلك المجالس، وقد تم وضع قانون انتخابي يعتمد النسبية، ومبدأ الاقتراع على القائمات مع اقرار التناصف والتناوب... ما يجعله يكرس العمل الحزبي المنظم... الذي يقصي الأفراد والمستقلين والنزهاء الشرفاء المخلصين للوطن والغير والتناوب... ما يجعله يكرس العمل الحزبي المنظم... الذي يقصي الأفراد والمستقلين والنزهاء الشرفاء المخلصين للوطن وغير المنتمين الا للمصلحة العامة، أولئك الذين مجوا العمل الحزبي الضيق والمكبل للارادة الحرة على شاكلة ما أسسه حزب التجمع المنحل وما تخلل شريان النسيج الاجتماعي من تصدع وتعفن. فالوضع يبدو محكم التنظيم باتفاق المتواجدين في صدارة الحدث الاخباري المرئي والمسموع والمكتوب ولنقل توافقهم على تقاسم السلطة المؤقتة بين رئيس مؤقت يحكم بمراسيم وحكومة مؤقتة تنازع الصلاحيات مع «الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح الديمقراطي»، فبعد أن صمت الكل باسم التوافق الذي أوجدوه بينهم عن كيل الاتهامات والقدح والطعن بعدم الشرعية أصبحت الطريقة سالكة بين كافة الأطراف الموجودة بقوة على الواجهة السياسية بتقاسم السلطة واستنباط جميع السيناريوات الموصلة الى انتخابات «المجلس الوطني التأسيسي» وتحقيق النقلة النوعية والتاريخية وتحقيق الديمقراطية وقيام حكم الشعب بواسطة منتخبيه وممثليه بحق بعد تغييبه لمدة عقود ثمن ثمار معاناته ومكابدته ومن ثمة انتصاراته التي أشعت بنورها بعد ان انحسرت الشرعية الثورية وبرزت على السطح شرعيات دستورية وأخرى مزيفة «مفبركة» دون هوية أنشأها تواجد تلقائي ظرفي وانتقالي لزعماء وممثلي التيارات السياسية وبعض مكونات المجتمع المدني وبذلك هيمنت واستبدت بالمشهد السياسي شرعية توافقية مؤسسة على الاتفاق الظرفي والمؤقت على الخطوط العريضة التي سطرتها الثورة وتحقيق المرحلة الانتقالية برصانة وفطنة وتدبير لتأمين وصول هبة الشعب الى شاطئ السلامة وبأخف التضحيات بعد أن بدأت قوى الردة ومطامع الانتهازيين والثوريين الجدد تكشر عن أنيابها وتنبئ بالتقوقع والانتكاسة.