مثلما لم يرتض كل عقلاء تونس وهم يمثلون الاغلبية الساحقة أن يمسّ جهاز الأمن بسوء، وأن توجّه له السهام المسمومة، وأن يعامل معاملة قانونية ومحترمة حتى وبعض أفراده يتعرضون للمساءلة، فإن أولئك العقلاء لن يرضوا البتة أن تتحوّل الفوضى لهذا الجهاز من داخله، أي أن يركب بعض أفراده رؤوسهم وأن يصبحوا مصدرا للفوضى والانفلات عوض أن يكونوا ضمانة للاستقرار والأمان معا. ففي مثل هذا السلوك خيانة عظمى، لأن الخيانة تقاس بمدى ضررها، وتعرّف حسب ما تحمله من سوء وشرّ. وإذا كان ربّ البيت بالطبل ضاربا فلا لوم وقتها على الصبية، وإذا تحوّل العاقل الى مجنون، فوقتها نقول على الدنيا لاسلام. وما تفعله الآن شرذمة قليلة من أعوان الأمن، هو الجنون بعينه، وهم بذلك سوف يخسرون كل شيء احترام الناس، وانضباطهم، وما تبقى من تعاطف الشعب معهم. خصوصا أن ما يفعله هؤلاء هو الخروج عن القانون وعن النواميس بأتم معنى الكلمة، وهو الدعوة السافرة والمعلنة للفوضى العارمة وللانفلات الذي لا حدود له. وبذلك سوف يندم هؤلاء مرّات ومرّات، سوف يكسبون اشمئزاز الرأي العام عوض تعاطفه، وتنديده عوض تفهّم مطالبهم. فلا توجد مطالب يُعبر عنها بهذا الشكل، ولا توجد مسألة يمكن أن تبرّر كل هذا الجموح، هذا عدا عن وجود وظائف تحتم بطبيعتها على الذين يتطوّعون اليها، التضحية والصبر والانضباط حتى وان كان مرّا. وإذا ما لم يلتزم عون الأمن بهذه الصفات الثلاث، فماذا بقي له؟ وعلى أي مآثر سوف يستند وهو يفقد أبرز مآثره. إن عون الأمن عندما يقبل على أي سلوك غير مقبول، تكون نتيجة فعله مضاعفة، فإن الصفة في هذه الحالة تسبق الفعل. وعندما يقبل على جريمة يكون قد أتى جريمتين، لأن مهنته أرقى من أن تلوّث بسلوك سيء او بجرم. وكما أنه لكل مهنة ضريبة فإن لمهنة الأمن ضريبتها ومن أضلاعها الانضباط والصبر. ولا يجب أن ينسى كل داع للفوضى، وكل محرّض على التسيّب مهما كان موقعه وصفته، أن الأيام دول، وأن من أضرّ بالناس أو بالبلاد اليوم، سوف يحاسب غدا، مهما نأى ذلك العدّ، ومهما بدا بعيدا فإن الذاكرة ستظل حاملة لكل هذه البقع السوداء، وإن القانون سوف يجد من يطبّقه والأحسن ان يتم ذلك كلّه بنفوس هادئة وضمائر غير متأججة، ومشاعر لا تحمل حقدا أو نية لتصفية حساب. ومن يلعب اليوم بالنار سوف يكتوي بها غدا، ومن يعبث اليوم مجاريا وقاحة لسانه وقبح نفسه سوف يتبيّن له أن للعبث فاتورة ثقيلة، فإن هذا الردح الحالي سوف ينتج رقصات لديكة مذبوحة، وإن هذا الرقص المجنون الحالي سوف يفتح أبواب «البيمارستان» على مصراعيها لعدّة مجانين، وإن العاقل هو الذي اتعظ بالأمس، وقدّر ما سيجري غدا. ذلك أن الغد لناظره قريب بلا أدنى شكّ. إن الدولة ليست دمية تلهو بها اليد، حتى يتوهّم البعض انه فوقها، وحتى يتخيّل البعض أنه يمكن له أن يغالبها، وحتى يعتقد آخرون أنه يمكن لهم ان يفتحوا معها جبهة حرب وإذا كان للمشرفين عليها في هذه اللحظة نيّة التعامل بالحسنى وسماحة طول البال، فإنه لها هي وحدها، وفي اللحظات الحساسة منطقا هو أضيق من الضيق، وسلوكا هو أصرم من الصرامة. وأكبر ضربة يمكن أن توجّه لهذه التجربة الجديدة في تونس، هو الانفلات مهما كان سببه أو مصدره، وهذا الادعاء الذي جعل القططة تستأسد. وهذا الجموح الذي سوف ينتهي أمام حائط سميك. وهذه «الطفولية» التي تعتقد أنها قد تحوّل مجرى تاريخ أو تزوّر نتائجه. ولقد توفّرت للتونسيين فرصة حتى يعيشوا لأول مرّة حقيقتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وحتى يكتشفوا أعظم وأسوأ ما فيهم، وحتى ينهوا علامة العشق التي جمعتهم بالكذب والزور، لكن ليس بالانفلات والادعاء والجموح سوف يرسو الناس على شاطئ آمن.