إن من الطبيعي أن تكون للأحزاب السياسية خططها الإستراتيجية، و تحالفاتها التكتيكية انطلاقا من رؤاها السياسية والفكرية، وطموحها للوصول إلى السلطة، وهو طموح مشروع يهدف إليه العمل السياسي، و عندما يكون هادفا، واعيا فإنه يقدر عادة المرحلة التاريخية التي يمر بها الوطن، فالمرحلة التاريخية التي يمر بها اليوم المجتمع التونسي، أو المجتمع المصري تختلف جذريا عن مرحلة البلدان التي ترسخت فيها الديمقراطية. إن هذا الوضع يتطلب أولا وبالذات التنازل والتحالف تكتيكيا بصفة خاصة. من الطبيعي أن تسيطر الحيرة على المواطن، و تنتابه الريبة تجاه الأحزاب السياسية عندما يدرك أنها تعطي الأولوية للأهداف الحزبية الضيقة على حساب مصلحة الوطن في كثير من الحالات. هنا تبرز أهمية قوى المجتمع المدني باعتبارها قوى مرجحة لهذه الكفة أو تلك، بل قل ملجمة إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ولكننا لا ننسى أنها تشكو من ضعف الوعي السياسي نتيجة سنوات من المحاصرة، وقد ارتكبت بعض الأخطاء لما أيدت نظما استبدادية بحجة أنها وقفت في وجه موجة من الردة، متغافلة عن أن الحرية لا تتجزأ، ولا تتلون. إن الأخطاء المذكورة قد ارتكبت أيام سنوات الجمر التي عاشتها ما أصبح يعرف بحركات الإسلام السياسي، فقد أعطت صكا أبيض لنظم استبدادية، ونسيت المقولة القديمة «أكلت يوم أكل الثور الأسود». حقا أن أنصار المجتمع المدني يرون أن الدين لا علاقة له بمفهوم المجتمع المدني، و لكنهم لا يقفون موقف عداء من الدين نفسه، بل يدركون جيدا أن الدين يمثل في المجتمع العربي الإسلامي معطى أساسيا في حياة الناس و المجتمع، و لكنهم يقفون موقفا صلبا وواضحا ضد استغلال الدين من طرف حركات الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة من جهة، واستغلال السلطة السياسية للدين لترويج مواقفها، وفرض استبدادها من جهة أخرى. ليس صحيحا أنهم يساعدون مقولات السلطة السياسية، وخصوصا إذا كانت قامعة ومستبدة، هم يناضلون في الوقت ذاته ضد الدولة الدينية والدولة الاستبدادية مهما كانت إيديولوجيتها، ونمط الحكم فيها. ولا بد من الاعتراف في هذا الصدد بأن بعض النظم السياسية استطاعت في فترة زمنية معينة أن تكسب تأييد قوى المجتمع المدني بحجة أن المجتمع مهدد من قوى متطرفة لإقامة دولة دينية، وكان لهذه القوى دور في التصدي للحركات المتطرفة المتخذة من الدين ذريعة لتحقيق أهدافها السياسية، وبعد أن انحسر دورها، وتضاءل خطرها انكشف اللب الحقيقي للأنظمة المذكورة، إذ أنها اتخذت من مقولة خطر التطرف الديني تعلة لكبت الحريات، وملاحقة جميع قوى المجتمع المدني المتحالفة معها بالأمس القريب. قد يقول قائل: هنالك حركات إسلامية متطرفة معادية بطبيعتها للسلطة و للمجتمع معا، ولكن هنالك تيارات أخرى معتدلة تؤمن بالعمل السياسي العلني، وبالديمقراطية، ويكمن خطأ قوى المجتمع المدني في البلدان العربية في حشر جميع التيارات الإسلامية في زمرة واحدة، وهي في حقيقة الأمر تيارات متعددة ومتنوعة، وقد يبلغ الصراع بينها حد الاقتتال؟ المشكلة حقيقية، ولا يمكن نكرانها، فهنالك تيارات إسلامية معتدلة تؤمن بالعمل السياسي، والصراع الديمقراطي، وقد قدم المجتمع السوري نموذجا فريدا في هذا الصدد أيام المرحلة البرلمانية في خمسينات القرن الماضي، ولكن هنالك مشكلا آخر يبقى قائما، وهو شديد التعقيد، ويلخصه التساؤل التالي: على أي أساس يمكن أن يتم التعاون والتحالف بين أنصار قوى المجتمع المدني المؤمنة بأن الإنسان مخير، وليس مسيرا، وبالتالي فهو المسؤول عن أعماله ومواقفه، وبأن قضايا الناس و المجتمع هي نتيجة صراع الإنسان فوق هذه الأرض، ولا علاقة لها بالأديان، وبين حركات يختلط فيها الدين بالسياسة، ويمتزج فيها عالم الغيب بعالم الشهادة؟