قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه). والسالك هذه السبيلَ المحفوفة بالمكاره والفتن إذا لم تكن له درع حصينة تحميه فتكَ هؤلاء القُطاّعِ فإن كلاليبها ستتخطفه وتهوي به في مكان سحيق. فمن الدروع السابغة التي متى ما تدرع بها المسلم جعلته يمضي في طريق الجنة حتى يصل إليها - بعد خوض الغمرات، ومصابرة المكروهات، وعصيان الإغراءات: درعُ الصبر، الذي يعني: حبس النفس على لزوم الحق في أمر تفعله، أو أمر تنكف عنه. والصبر خُلُق من الأخلاق الكريمة التي تشير إلى النفوس العظيمة، استطاعت باتشاح هذا الخلق النبيل أن تقارع الأخطار، وأن تنازل الأضرار، حتى تصل إلى محمود الأمر، وسنام الهدف، وانفراج الحال بعد الضيق، والراحة عقب العناء، وذلك لا يكون إلا على جناح هذه الشيمة النبيلة وهو صفة حميدة تضبط النفس، وتقيمها على نهج المكارم، وتضيء لها فجر النجاة في حالك الظُلَم، قال عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء). وهو عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى من عبده، ويجازيه عليها جزاء وافرا؛ لأنه يقود النفس إلى ركوب الآلام بغية الآمال، ويبني رسوخها على الحمد عند زلازل الأمور، ويكبح جماحها حين تريد السوم في حمى المحظورات؛ ولذلك تواترت الآيات القرآنية الكثيرة في الأمر به، والثناء على أهله، وبيان أهميته وفضله، والإخبار عن الثواب الجزيل لمن اتصف به، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]، وقال: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10] والحياة الدنيا كلها معركة صبر لا يدخل أحد الجنة إلا بالانتصار فيها؛ ولذلك يأتي الملائكة في دار الفلاح مهنئين أهل الظفر في هذه المعركة قائلين لهم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]. وما شهر رمضان إلا صفحة من صفحات الصبر في كتاب الحياة، لكنها صفحة ليست ككل الصفحات، ففي رمضان تتجلى معاني الصبر في أبهى صورها، وأنصع سطورها؛ ولذلك سمي بشهر الصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر).