إلى وقت قريب كان الشيخان، السبسي والغنوشي، مصدر ارتياح ومبعث طمأنينة، كلّما حدثت أزمة الاّ وتدخلا وأوجدا الحلول اللازمة ودفعا بالبلاد خطوة إلى الأمام. وبرغم ما عملت عليه قوى وأطراف مختلفة، محلية ودوليّة، في الكثير من الأحيان لضرب حالة الانسجام بين الرجلين فقد واصلا بثبات سياسة تشاوريّة بلغت بعلاقتهما حالة من التمازج ونقلت الثورة التونسيّة وتجربة الانتقال الديمقراطي الى مستوى المثال والنموذج الفريد في كامل المنطقة، حيث غلبت لغة الحوار والتفاهم، ما سواها من لغات القطيعة والصدام والعنف والاحتراب الأهلي. لا أحد، حتى من معارضي السبسي والغنوشي واعداء النهضة والنداء، بإمكانه أن يُنكر مزايا لقاء باريس في 13 اوت 2013 في انقاذ البلاد من أزمة سياسيّة خانقة ومدمّرة كانت ذاهبة إليها إبّان اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمّد البراهمي وذبح الجنود في جبال الشعانبي، لقاء تاريخي فارق عدّل بوصلة الجميع في اتجّاه تجريب سياسة التوافق واختبار منطق التنازلات المتبادلة ووضع البلاد في طريق مفتوح للخروج من الوضع التأسيسي الصعب والمتشعّب وإعطاء إشارة الإنطلاق لمسار تحكيم الإرادة الشعبيّة والتداول السلمي على السلطة وبدء تركيز مؤسّسات الحكم الدائم والمستقر. اليوم، ومع تزايد المؤشرات الحسابية للدولة تراجعا، فإنّ الوضع يبدو لدى المتابعين الجيدين للحراك السياسي التونسي أكثر تعقيدا وتشابكا، فالصراع محتدم بين اجهزة الدولة نفسها، وتحديدا داخل أهمّها اي وزارة الداخليّة، والانقسام السياسي حاد وبتمظهرات عجيبة جدا ليس أقلّها الرفض المتواصل للحزب الأغلبي للحكومة القائمة وانتفاء صفة الوحدة الوطنية عنها الى درجة حوّلت حكومة الشاهد إلى حكومة أمر واقع لا اغلبية لها ولا أفق أمامها لتنفيذ أي من برامجها وخططها مع ما يتهدّد الحياة السياسيّة من مزيد التعقيد والغموض والالتباس في ظل ما يروّج من اشاعات لاستفحال منطق تصفية الحسابات بين مراكز نفوذ داخل السلطة نفسها وهيمنة هواجس انتخابات 2019 على غيرها من الاهتمامات الوطنية العاجلة، فالمحكمة الدستورية غائبة وهيئة الانتخابات شبه معطّلة ولا أفق لتعديل القانون الانتخابي ولا افق لميزانية السنة القادمة ولا أفق لقانون مالية جديد. يُضاف الى كلّ ذلك واقع البطالة وحالة الغضب في داخل البلاد والمناطق المحرومة وأزمة اقتصادية خانقة بمديونية قياسية ودينار مهدد بالانهيار وطرح الحكومة لقرض رقاعي بقيمة ألف مليار دولار (حوالي 3 آلاف مليار دينار تونسي) واقدام البنك المركزي على رفع نسبة الفائدة المديرية بمائة نقطة كاملة، في سابقة، وهو قرار خطير ستكون له انعكاسات حادّة على تدفق الاستثمارات وايضا على نسبة التضخّم والقدرة الشرائيّة للمواطن. وضع كارثي بكلّ المقاييس، تغيب فيه كلّ مبررات استدامة الوضع الراهن أو الدفاع عنه، وضع يستدعي عاجلا تدخلا من الشيخين قبل فوات الأوان لتغليب المصلحة الوطنية وتقدير الموقف الصائب لإنقاذ البلاد من حالة العطالة التي باتت عليها أغلب مؤسّسات الدولة وإزاحة حالة اليأس والحيرة هاجس غالبيّة التونسيّين والتونسيّات. نحتاجُ الآن، الى شيء شبيه بلقاء باريس، يرفعُ الغموض والالتباس ويُعيد القاطرة الوطنية الى سكّتها الصحيحة بعيدا عن كلّ المخاوف وهواجس الانزلاقات الخطيرة، لا قدّر الله.