دخل القبطان غرزياني وفريقه المكتبة وهم يضربون الارضية الخشبية بأحذيتهم العسكرية الغليظة محدثين صخبا كبيرا ولكن ذلك لم يؤثر في نفس جميلة التي تعوّدت على مثل هذا «الاخراج» وكانت متهيئة لكل المواقف التي تحاول النيل من صمودها بفضل التدريبات التي تلقتها برعاية مختصين من جبهة التحرير. وتقدم أحد المظلّين منها بعد اشارة تلقاها من غرزياني، ووضع على المكتب الذي أمام جميلة صورا فوتوغرافية لمحت فيها دماء وخرابا وفهمت سريعا أن هذه الصور تتعلق بآثارالعمليات الفدائية التي قامت بها رفيقتاها سامية الخضاري وزهرة الظريف في محلي «الملكبار» و«لوكوك آردي» بتعليمات من القائد ياسف السعدي. واستبقت جميلة السؤال فقالت في هدوء كامل: «لست في أية علاقة بهذا الذي في صوركم» بقي المظلي واقفا أمامها فرفعت رأسها ولمّا رأته تعرفت عليه فورا وأحست عندئذ الغضب يخنقها غير أنها تمالكت وحافظت على هدوءها. ثم عادت وحدقت فيه مليّا من جديد وأدارت رأسها في ازدراء واحتقار، أنه ذاك المظلي الذي أشرف على تعذيبها طيلة ثلاثة أسابيع كاملة. نعم انه هو بشعره الأحمر وعيناه الزرقوين ورائحة التبغ القوية النابغة من بزّته. لقد كان معه أربعة زبانية يتحركون بأوامره كآلات بلا روح ويتبادلون الأدوار في صمت رهيب. وكان هذا المظلي الأحمر الشعر يظهر ويغيب ليسأل: «هل تكلمت؟» ولم تكن جميلة لتتكلم بغير هذه الجملة التي كانت تزيد من غل معذبيها: «تحيا الجزائر!». كان أحدهم يمسك بسكين حادة يدغدغ بها الجرح الذي تركته الرصاصة التي أصابتها في الكتف في مساء ذلك اليوم التاسع من أفريل. كسرت الرصاصة عظم كتفها ثم نفذت من فوق ثديها دون أن تحدث على غير المتوقع اخطارا جسيمة. وكان آخران ممن اختصّا «في الفن الكهربائي» كما يسمى ذلك مناضلو جبهة التحرير بدعابتهم المألوفة وكان يربطان على حلمتي ثديي جميلة وعلى أنفها وأذنيها أسلاكا كهربائية. وما أن انتهيا من شغلهما حتى يصيح ثالث: «حذاري سأبعث العصير» ستصيب جميلة صعقة كهربائية تفقدها وعيها للتوّ. وما ان تفيق يسأل غرزياني ذلك المظلي ذا الشعر الأحمر: «قد قبلت أخيرا أن تتكلّم؟» فيحرّك رأسه يمنة ويسرة مؤكدا أنها لا تزال صامدة، سيقول غرزياني: «واصلوا!». لم تكن كل عذابات الدنيا لتنال من جميلة لأنها كانت تعتقد أن جسدها لم يعد ملكها وأنها وهبته لقضية آمنت بعدلها وبانتصاره القريب.