وجدت جميلة نفسها وحيدة في مكتب مدير التحقيقات العسكرية بعد أن غادره القبطان غرازياني ومرؤوسوه الأربعة دون أن يغلقوا الباب وراءهم. أدركت سريعا أنّها مناورة أخرى لإرباكها ولتضييق الخناق عليها وجعلها في الأخير «تبصق القطعة» كما يقولون، وتعترف. وواعدت نفسها وأقسمت أن لن يظفروا منها بمعلومة واحدة أكثر مما وجدوه مكتوبا في الوثائق التي حصلوا عليها حين أمسكوا بها وهي تنزف دما بعد أصابتها برصاصة في كتفها. طال السكوت وطال الانتظار فتملّكت جميلة رغبة جامحة لاطلاق صيحة مدويّة تقول فيها كل ما تراكم في صدرها من غيظ وغضب على هؤلاء المستعمرين الغاصبين. لم تصرخ خوفا من أن يفهم غرزياني وأعضاده أنها بدأت تنهار. كتمت صرختها وغضبها ونظرت مرّة أخرى الى شباك المكتب ونور الشمس الربيعي المتدفّق منه كسيل عرم فرأت وجه أمّها تعلوه ابتسامة عريضة وهي تشير إليها بسبابتها: «حذار أن تضعفي أمام هؤلاء المجرمين الذين يريدون أن يُذلّوك ليفرضوا عليك حقيقتهم الكاذبة: فرنسا ليست أمّنا. أمّنا الجزائر!». لماذا يتذكّر الانسان دائما أمّه في الأوقات العصيبة والمواقف الصّعبة؟ أغمضت جميلة عينيها فرأت صُور طفولتها تمرّ كما لو في شريط وثائقي مثل تلك الاشرطة الأنبائية حول الاحداث في فرنسا والتي كانت تبثّ في قاعات في السينما قبل انطلاق العرض. رأت جميلة أمّها وهي تخاطبها مبتدئة حديثها دائما بتلك العبارة الخاصة التي جاءت بها من مدينة صفاقس، مسقط رأسها ولم تتخلّ عنها رغم السنين الطوال في الجزائر: «ردّ بالك!»، هكذا كانت تقول أم جميلة لابنتها وهي تضع سبّابتها على أعلى خدّها وتضغط عليه نحو الأسفل لتوسّع فتحة العين قبل أن تضيف «فرنسا لابد أن تخرج من الجزائر كما دخلتها. تخرج بالسلاح كما دخلت بالسّلاح!». كانت جميلة تشرب كلام أمّها وكانت لا تملّ أبدا من سماع ذكرياتها حول طفولتها بصفاقس. لم تزر جميلة صفاقس لكنها كانت تعرفها من خلال أحاديث أمّها التي لاتنقطع، وتعرف تقاليد أهلها ومهارات نسائها في الطبخ وبراعتهن في إدارة شؤون المنزل. وكان يروق لجميلة أن تسمع أمها تقول لابيها: «وراء كل رجل عظيم امرأة صفاقسية حتى في الجزائر!». لكن ما حفرته أمّها في ذاكرتها هو ما يتعلق ببطولات أهل صفاقس ووقوفهم في وجه المستعمر الفرنسي الذي احتاج لحشد كل قواه للاستلاء على المدينة بعد إمطارها بأثقل القنابل وشتى أنواع القذائف. وتختم الأم حديثها: «بلاد أخوالك بلاد الشجعان!». وتتزاحم صور الطفولة في ذاكرة جميلة. تبتسم فجأة. لقد تذكّرت يوم سألتها أمّها عن المهنة التي تريد أن تمارسها في المستقبل فأجابت: مصممة أزياء! فقالت أمّها وهي تضحك: عرقك الصفاقسي تحرّك!