(1) كأنه الآن راكع على ركبتيه تماما كأفلوطين Plotin الفيلسوف الأسيوطي يتأمل العالم من خلال زهرة في حديقته السّرية في تعاليم البهجة والجمال في «التاسوعات»... كمال الزّغباني الباحث عن السعادة في ما بعد الميكانيكا، ويبدو أنه قد وجدها ناظرا إليها في أفق مغلق يبشر بالعناية الإلهية في الحبّة الأولى، البذرة الصفر، الواعدة بالجنة الأرضية، أولنقل تحديدا الجنة على الأرض البوار، في الأرض الحجرية الضحضاح الجاحدة بنفايات البناء والإسمنت وشظايا القرميد والبلور المكسور ... كمال الزّغباني المثقف الفيلسوف اليائس من «المشاريع التونسية» والهارب من ضيق الفكر على جادة اليسار، ومن «البهيموقراطيا التونسية» الخالصة التي تقلل من الأعمار والإمعان في الحط من الأقدار قد توجّه مباشرة إلى « التدبير «، لكنه تدبير متوحّدٌ إلى حين، ليعيد إلينا سردية الاكتفاء الذاتي بالنفس أوعلى الأقل الاقتصار في أوقات قائظة على الاحتفال بالفردانية بوصفها الطريق الوعرة الوحيدة للحرية والانفلات من النكد اليومي الذي لا مثيل له في تونس، ذاك النكد اليومي الذي تحوّل إلى قيمة لا مثيل لها في الاقتصاد السياسي للمعنى في هذا المناخ العكر القسري والقهري الذي ابتلينا به في هذه البلاد، ذاك النكد اليومي الذي يمنعك من اجتراح أية دلالة استعلائية لانتحار فلسفي ممكن يليق بالراهن الذّهبي المنفرط بين أناملنا - نحن البلهاء - كالزّبد في ما بعد 14 جانفي . (2) لا تخافوا على من يهمل قصّ أظافره فهو لن يخدش إلا فروة الرأس حين تلتمعُ أوتتوقّدُ في ذهنه فكرة طائشة قد يحوّلها إلى حلم ويحوّلُ الحلم إلى انتكاسة للحزن ... لا تخافوا على من يهمل قصّ أظافره لعله يستعملها في التقاط حصاة أونواة يحوّلها إلى مفهوم ... لا تخافوا على من درس جول دلوز Gilles Deleuze يربّتُ على الحجر بالتحنان حتى يحوله إلى فكرة ثم إلى مفهوم ... لا تخافوا على من خبر أسرار النسغ والعروق والجذامير (Rhizomes) التي هي عروق العروق اللامتنهية في تفرعات الأفكار والمفاهيم وتأثيراتها المتبادلة... لا تخافوا عليه... هذا الكمال الزّغباني وهويكتفي بنفسه عائدا إلى تربة الأسلاف يقلب أديمها ودفأها الخفيّ ويُوقضُ فيها ما أمكن من سعادة الاكتفاء الذاتي مُبتهجا بنوّارة تحوّلت إلى ثمرة ستتحول إلى ما يشد الكائن لأمل ممكن ضد اليأس وضد العقر والجحود وضدّ ما أفسده عليه وعلينا المتهافتون في هذا البلد... قد يسأل سائل هل يستأهل مربع الزّغباني الأخضر كل هذا الحديث؟ أقول أجل ... لأن ما قام به الزّغباني بيان عملي على ما يمكن أن نقوم به من أجل مجابهة هذا الخراب المعمّم في البلد، هذا البلد الذي حلمنا كجيل بأن يكون أكثر بهاء ورحابة وأقل جحودا وتهميشا، ولأن «زغبانيا» فكرة أونظرية فبإمكانها أن تكون صالحة بدءا بقدرة صاحبها وهوفيلسوف سارد على تفعيلها كمانيفستو، بيان مستقبلي لمقترح عملي . (3) كمال الزّغباني ليس من الجيل المترفّه أوالمترف الذي بإمكانه أن يقضّي العطلة في «المنزل الريفي» أوفي منتجع خاص، ولا هومن يسار أخضر إيكولوجي تنصل عن طواعية من «طاوية» النضال في الصراع الطبقي، لكن المؤكد أنه تخلص من بؤس الايدولوجيا وسخافة الشعارات واتجه بحدس أكثر صفاء ووضوحا في تدبير شؤونه الخاصّة والعامة المختزلة في اجتراح الأرض الضحضاح في مربع أرضي وعر أمام سكناه كان، كما ذكرت، مصبا للنفايات ليحوله إلى « زغبانيا « جنّة صغيرة يوزّع صُورها على الفايسبوك كعلامة يائسة عن سعادة ممكنة، لكنه يتباهى بدهشة لا متناهية كمن اكتشف النار لأول مرّة... تلك هي "زغبانيا"، هكذا يسميها كمال مازحا، لكنها في الحقيقة تمرين على اجتراح «اليوطوبيا» أوطوباويته الخاصة، ف "زغبانيا" في الحقيقة ليست إلا مفهوما عمليا للتدبير، شكل من أشكال المقاومة التي يبتكرها المثقف المطرود من ثقافة القطيع وتربية الجموع ليرتب أولويات شؤونه الخاصة كمواطن صالح بشهادة دكتوراه في الفلسفة وراتب بروليتاري لا يفتق عبقرية ولا يرتّق كرامة . لكن «زغبانيا « هذه هي انكفاء هرمي من أجل تمدّد أفقي جذموري ممكن لأنها مشروع فردانيّ يمكن استيلادُها لا استنساخُها، في مجالات شتى مفتوحة على التدبير... "زغبانيا" هي جمهورية «مهاباد» دون أن تكون كرديا لكن بإمكانك أن تكون فردانيا من أجل فردانية جماعية ممكنة، "زغبانيا " استعارة لفكرة المبادرة النفعية الغائبة اليوم في فضائنا العمومي، وهي أيضا تمرين سريّ لإدارة الشأن الذاتي تساوقا مع صورة المثقف النابتة في « تدبير المتوحد « الباجي ( ابن باجة )، أوهي التغيير يبدأ من عتبة الباب السّكني. "زغبانيا " حجّة فردانية على مشاريع التنمية الظاهرة الخفية، الخطية والموازية في هذا البلد الذي أصبح فيه تدشين شركة تقشير الفواكه الجافة انجازا نوعيا يزاحم رهانات التجارة العالمية . (4) هل ثمة اليوم مجال لليوطوبيات في ظل هذا الانحصار الرّهيب والتراجع المتزايد لهامش الحريات والابتكارات والإبداعات؟ هل بإمكان « المثقف التونسي « اليوم الذي يجد نفسه على هامش الهامش، خارج حسابات السياسة ومدامكها والأحزاب ومزالقها والتّجمعات وتهافتها، أن يرسم على الأقل بقلم الرصاص على الورق جزيرته المشتهاة وجمهوريته الخاصة بعد أن تم طرده بتعسف من شؤون الجمهورية الثانية ليحل محله السّمسار والشّعبوي والمافيوزي والزّبوني والخبير والفقيه والمستخير (من الاستخارة) ومحترفو «المجتمع المفتوح»؟ ...لكأن التاريخ في حقيقته لا يتحرك في بلادنا إلا في منطق هذا «اللا مكتمل الأبدي « الذي يُعيدُنا كل مرّة إلى المربعات الأولى التي تخفي بدورها مربعات أكثر قتامة خلناها قد ذهبت بلا رجعة، وعليه فإن هذا « المثقف» التونسي المستقل مضطرا في لعبة عبثية أن يعيد أسئلة ملاذه الممكن خارج البذاءة والرداءة والامتهان الرخيص بثمن خسارته الوجودية المحضة مستعيدا أسئلة ما قبل الثورة الكوبرنيكية فيدرك أن الكرامة الإنسانية Hominis dignitate كمفهوم ابتدعه بيكودي ميراندولا Jean de la Mirandole ليس إلا مفهوما متخيلا استلهمه صاحبه من ثقافة عربية متخيلة رُوّاتُها بحّارة أوتجّار عرب متخيلون على ضفاف أوروبية متخيلة... إن حجم الارتداد والانحطاط الفكري والأخلاقي والنكوصية المعرفية التي شهدها اليوم مثلا في استعداء مقترحات تقرير الحريات الفردية والمساواة على المجتمع التونسي استكمالا لمساره الإصلاحي لهوأمر مفزع حقا ومخيف يدفعك من حيث لا تشعر إلى الاستكانة والتقوقع والانخراط في نومة الدببة القطبية .لكن يخطئ من يظن أن ابتكار « طوباوية « ما، هوهروب أوانسلاخ عن الواقع، ويخطئ من يظن أن ابتكار الطوباوية انخراط في التوحد المرضي أوالسرية، بل على العكس تماما الطوباوية هي وعي حاد بالواقع ومعاناة دؤوبة في محاولة تغييره، والثابت لمن يطلع على « اليوطوبيا « Utopia لتوماس مور Thomas More، سيدرك أن كتابه استعارة على إمكانية ميلاد دولة الحرية البديلة على دولة الجزيرة البريطانية الحالكة الملتفعة بالأسمال القروسطية رغم انطلاق تباشير عصر الأنوار في نهاية القرن السادس عشر ... وأعتقد بجدية أن حان الوقت اليوم في هذا السديم التونسي أن نتجرأ على الإفصاح على « طوباوياتنا « بشكل عملي ونظري . (5) أنا شخصيا لم أزر «زغبانيا» رغم دعوة كمال المفتوحة لزيارتها من أجل حديث مطول عن «اليوطوبيا» وعن «السعادة الأرضية» وعن «الجامعة الشعبية» وعن «الأنغواصة» وهي أقصى درجات الرّعب التونسي، لكن مجرد ترصد أخبارها كمتلصص يحفزني على التفكير في ما يمكن تدبيره من «طوباويات « عملية ممكنة، على الأقل على مستوى التفكير والتخمين والتأمل والكتابة وحتى الثرثرة ...لا أدري وأنا أفكر في «اليوطوبيا» أوفي " زغبانيا" أدرك أن التاريخ يتقدّم لأن بذورا طوباوية زرعها بعض من المتفردين كانوا دائما على الهامش فتحولت في تربتها إلى أدغال، ولا أدري لماذا أفكر الآن في ما بذره الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي والشّابي في التربة التونسية لنعيش اليوم كل هذه الفرص الضائعة التي تعيدنا إلى الوراء النكوصي ... ربما لأننا انقطعنا عن أن نكون طوباويين مثلما هوحال متوحد «زغبانيا».