تحيي تونس غدا اليوم العالمي للتربية و منظومة التعليم تراوح مكانها رغم ان النقاش العام الذي رافق الإعلان في سنة 2015 عن انطلاق الحوار الوطني حول إصلاح منظومة التربية حمل معه بوادر مشجعة و رؤى تتلاءم و مطالب جميع المتدخلين في هذه المنظومة... تونس الشروق : إن استندت الى الأرقام و المؤشرات فلن يتطلب الامر ان تكون مختصا في مجالات التربية و التعليم لتقف عند حجم الأزمة التي يتخبط فيها هذا القطاع منذ تسعينيات القرن الماضي. فتونس التي يبلغ عدد تلاميذها في التعليم الأساسي و الإعدادي و الثانوي مليونين و مائتي الف متمدرس سجلت في السنوات الأربع الاخيرة معدلات قياسية في الانقطاع المدرسي بلغ مائة الف حالة سنويا و حسب التعداد السكاني لسنة 2014 تبلغ نسبة الأمية في تونس رغم ما بذلته دولة الاستقلال من جهود لتعميم التعليم و اضفاء الصبغة الالزامية عليه و ضمان مجانيته معدلات مرتفعة..و الى حدود بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت البلاد تتباهى بمستوى شهائدها الوطنية حتى ان الحاصلين على الباكالوريا التونسية كانوا معفيين من أي تنظير مع الشهائد الأوروبية و الامريكية متى أرادوا مواصلة تعليمهم العالي في هذه الدول. و اذكر شخصيا ان كليات الطب في سويسرا كانت تعفي طلبة بلدين فقط من خارج الجغرافيا الاوروبية من اي امتحان او تنظير و هما تونس و الكيان الصهيوني. فلماذا تراجع مستوى التعليم في تونس ؟ في تشريحه لهذه القضية، يذكر المتفقد العام بوزارة التربية في دراسة له أعدها ضمن نشاطات مركز الدراسات الاستراتيجية و الديبلوماسية " رافق تطبيق النظام التربوي التونسي منذ تأسيسه غداة الاستقلال العديد من المشاكل تراوحت بين الانتقائية المشطة وضعف المردود مع ما عرف بإصلاح المسعدي والإصلاحات الجزئية والفرعية التي تمت في صلبه ما ادى إلى تراجع مستوى المتعلمين وضعف مكتسباتهم في ظل ما عرف بإصلاحي الشرفي و الرويسي ". مضيفا « ومع الزمن أصبحت هناك مشاكل مزمنة للنظام التربوي التونسي وتراكمت العديد من العلل والسلبيات التي أخذت تنخر مدخلات المدرسة التونسية وتعصف بمخرجاتها وتهدد دورها ومكانتها . وانطلاقا من التشخيص العام المعتمد بناء على الكثير من التقييمات الداخلية والخارجية ومن خلال استقراء واقع الوضع التربوي في تونس ومقارنة معطياته ونتائجه وإحصائياته مع بلدان أخرى نكتشف الوضع المزري الذي أصبح عليه الشأن التربوي التونسي وخاصة على مستوى ترتيب أبنائنا في المناظرات العالمية (على غرار مناظرتي بيزا و تمس) ورتب الجامعات التونسية عالميا وحتى إفريقيا، فهي رتب لا نجد لها أثرا في ال 6000 جامعة الاولى على المستوى الدولي و ال 50 جامعة الأولى على المستوى الإفريقي ولا يفوتنا كذلك التنبيه إلى ما أصبح يخشاه الشعب التونسي من مخاطر محدقة بمصير أجياله الصاعدة وتهديدات من شأنها المس بصحتهم الجسدية والنفسية وبأخلاقهم وسلوكهم من خلال بروز ظواهر استهلاك المخدرات داخل وحول الوسط المدرسي وتفاقم حالات العنف والغش والانقطاع المدرسي ". ارباك و ارتباك.... على ما حملته الوثيقة المنهجية لإصلاح المنظومة التربوية التي نشرتها وزارة التربية بمناسبة اطلاق الحوار الوطني حول التربية يوم 23 أفريل 2015 والصادرة عن المركز الوطني البيداغوجي من آمال وبالرغم من هذا التفاؤل الوارد في هذه الوثيقة وسواها ومن الخطاب الرسمي للأطراف الثلاث المشرفة على هذا الحوار يؤكد معد الدراسة المذكورة على أن « إطلاق الحوار الوطني حول اصلاح المنظومة التربوية استقبل باحترازات شديدة من أوسع فعاليات المجتمع المدني و بتشكيك كبير في مدى فاعليته وضمانات نجاحه. وقد كان مبعث هذه الاحترازات سيطرة روح الوصاية المتمثلة في الاشراف المنفرد للاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان إلى جانب وزارة التربية على الحوار دون أي سبب وجيه ودون أي وجه أو شرعية بالرغم من اعتراف الجميع بمكانة الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره الوطني والمجتمعي واحتضانه لأكثر نقابات التعليم تمثيلية. وبالرغم من علاقة التوتر وموجات الاضرابات المتواصلة بين هذه النقابات والوزارة طيلة سنوات ما بعد الثورة وحتى خلال الفترة الراهنة وكذلك الاقرار بأهمية عمل المعهد العربي لحقوق الإنسان في مجال نشر مبادئ وثقافة التربية على حقوق الإنسان والمواطنة و المدنية .. لا شيء أبدا يفسر وصاية هذين الطرفين بمفردهما على الحوار حول التربية». فإلى جانب انفراد اتحاد الشغل والمعهد العربي لحقوق الانسان بالإشراف كما يذهب الى ذلك الباحث ، « احتجت أوسع شرائح المجتمع المدني عن إقصاء عدد كبير من الجمعيات والهيئات عن المشاركة في الحوار بالرغم من اهتمام أغلبيتها بموضوع التربية والتعليم وامضاء الكثير منها عقود شراكة مع وزارة التربية . وترى أغلب هذه الجمعيات المقصية أن استبعادها يعود إلى اختلافها في الرؤية مع الاطارات الفاعلة داخل الوزارة ومع رؤية المعهد العربي وشبكة العهد التي يمثلها في المشروع التربوي المجتمعي وكيفية تصور القيم والأسس التربوية لطفل اليوم- مواطن الغد ولملامح المتخرج من المدرسة وذلك بالرغم من أن دستور الثورة (دستور 2014) قد حسم الموضوع خاصة في توطئته وفي الفصلين 1 و 39 منه ". تسرع و ارتجال... شاب هذا الحوار الوطني الكثير من التسرع و الارتجال حيث يعتبر الباحث « أن فترة الشهرين أو الثلاث غير كافية لتحقيق مشاركة واسعة وفاعلة وحقيقية ولا يمكن أثناؤها عن بلورة التشخيص العلمي المعقول ولا تقديم التصور السليم للحلول . وذلك لعدم القيام قبل إطلاق الحوار بتجميع المعطيات وتحليلها وتنظيم استشارة منظمة ومنهجية لدى الخبراء والمختصين وإجراء تقييمات موضوعية وعلمية تكون قاعدة أصلية لانطلاق الحوار ودعامة منهجية لضمان نجاحه وليس القيام بالمسار المقلوب أي إطلاق الحوار ثم القيام بتكوين اللجان وتنظيم الاستشارات والتقييمات والتشخيصات وتجميع المعطيات ". كما شكل غياب عديد الأطراف المعنية باصلاح المنظومة التّربوية عائقا امام نجاح هذا الحوار الوطني « فعدم مشاركة وزارة التعليم العالي ووزارة التكوين المهني والتشغيل ووزارة المالية على سبيل المثال من بين الأطراف الحكومية ذات الصلة بموضوع التوجيه المدرسي والجامعي وتمويل الإصلاح وسوق الشغل لا مبرر له وفي هذا الصدد أيضا نسجل التغييب غير المنطقي لاتحاد الصناعة والتجارة (منظمة الأعراف) ولاتحادات الطلبة ولممثلي الأولياء والأسرة. كما لوحظ الارتجال في الاستشارات المنظمة مع التلاميذ والمدرسين. ومقابل هذا الحوار الرسمي المنقوص شهدت البلاد من أقاصي شمالها وجنوبها إلى أقاصي شرقها وغربها مجموعة كبيرة من الندوات والملتقيات ونظمت القنوات التلفزية والإذاعات والصحف والمنتديات الكثير من الحوارات والملفات والورشات حول الإصلاح التربوي وتوج كل ذلك بتأسيس المنتدى المدني لإصلاح المنظومة التربوية الذي ضم حوالي 200 جمعية مدنية مما يؤكد الأهمية القصوى التي يوليها المجتمع المدني لقطاع التربية والتعليم واحتجاجه على ما تميز به الحوار الرسمي من وصاية وإقصاء وتصميمه على إبداء الرأي والمشاركة ولو بشكل مواز ورفضه الخضوع للأمر الواقع ولتمرير مشروع إصلاح قد يتضارب مع الانتظارات الشعبية والأهداف المجتمعية والمبادئ والثوابت الواردة في الدستور الجديد، لسان حال التوافق الوطني ".