فوجئ العاملون بالقطاع التربوي والمهتمون بهذا الشأن عامة بقرار وزارة التربية التخفيض في ساعات التكوين بالقسم التحضيري بالمدارس العمومية ب 4 ساعات أسبوعيا بعد أن كان عشرين ساعة في السنة المنقضية ليصبح 16 ساعة وفق ما ورد بدليل التنظيمات البيداغوجية للسنة الدراسية 2018-2019 وتحديدا في النقطة الثانية بالصفحة الثالثة من المرجع المذكور الذي أصدرته الوزارة والذي ينص على ما يلي "تخصص 16 ساعة أسبوعيا للقسم التحضيري" دون توضيح أسباب هذا القرار الهام. وهو ما يمثل مدعاة للتساؤل حول الدواعي العلمية والبيداغوجية المبررة لهذا التخفيض، لاسيما أنه يحرم الطفل التونسي ما يقارب من 104 ساعة تكوين سنويا. وبنظرة خاطفة لغيرنا من النُظم التربوية كالنظام التربوي الفرنسي مثلا، نجد أن الطفل الفرنسي يتمتع ب 24 ساعة اسبوعيا أي بما مجموعه 864 ساعة تكوين سنويا مقابل416 لنظيره التونسي أي بنقص يفوق نسبة الخمسين في المائة. هذا الرقم الصادم يجعلنا نتساءل عن جدوى هذا القرار لمنظومة تطمح إلى تحقيق الجدوى والاقتراب من المعايير الدولية للجودة في التربية عامة وفي التربية قبل المدرسية خاصة، في ظل ما تنص عليه المواثيق الدولية من حق الطفل في تربية ملائمة، وعلى أهمية الخيارات الاستراتيجية التي تراهن على الاستثمار في الرأس المال البشري. فهل بهذه القرارات نرتقي بمردود المدرسة وبمنظومة تربوية على أبواب إصلاح مرتقب؟ وكيف لنا أن نبرر هذا الإجحاف في حق طفولتنا في مقابل ما تحظى به في بقية النظم من اهتمام بالغ على خلفية الدراسات الحديثة في المجال العصبي والعرفاني، مؤكدة على أهمية هذه المرحلة ودقتها في تشكيل شخصية الفرد وتنمية استعداداته الوجدانية والعقلية السلوكية وبناء ملامح الفرد والمجتمع ككل، ما جعل العديد من تلك النظم تعتمد ما يطلق عليه "بالجذب نحو الأسفل" في إصلاحاتها من خلال مزيد تركيز الاهتمام على المراحل الأولى للطفولة وتوفير أقصى ظروف الإحاطة والتكوين وأفضلها لبناء أساس سليم للتربية المدرسية اللاحقة. وعلى النقيض من ذلك نرى منظومتنا تقفز خطوة إلى الوراء بسعيها لمزيد تهميش هذه المرحلة الحيوية في تكوين الذات باعتماد قرارات لا نجد لها مبررا سوى الإضرار بمصالح الأجيال القادمة في ظل صمت أو تواطؤ عديد الأطراف. لعل البعض ينظر إلى هذا القرار باستخفاف بينما يمثل من زاوية المهتمين بالطفولة والتكوين قبل المدرسي ضربا حقيقيا لحقوق الطفل التي تكفلها كل المواثيق الدولية ومزيد استنزاف الموارد المحدودة للولي لدفع تكاليف منظوره في هذا الوقت الضائع من حقه في التكوين. أليس بإزاء التشريع لسرقة مزدوجة موصوفة؟ وهو ما يجرنا إلى السؤال حول الجدوى من مثل هذا القرار الذي يعد "جريمة "في حق طفولتنا و قرارا عشوائيا لا يستند إلى أي مبرر علمي وبيداغوجي غير الارتجال وضبابية الرؤية وغياب النظرة الاستشرافية لقطاع حساس يتعلق بمستقبل الشعوب وبتكوين أجيالها. وإلا بم نفسر هذا العبث المتواصل من القرار إلى القرار المناقض وسياسة "نعود إلى ما كنا عليه" في توزيع المحطات التقييمية مثلا أو القفز في الهواء في خطوات غير محسوبة العواقب كالتخفيض في ساعات التكوين في بعض المواد أو المستويات؟ فهل بهذه الشاكلة من القرارات التي تحرم أبناءنا حقهم في التأطير والتكوين ليبقوا فريسة للمجهول نبدأ الإصلاح؟ أين سيقضي الطفل تلك الساعات الأسبوعية الأربعة في غياب الوالدين وانشغالهم المهني: في الشارع أم في دور الحضانة المدرسية أم ماذا؟ لعل الأسئلة تبدو أكثر إلحاحا في مثل هذه القرارات التي تعكس تذبذبا بل وجهلا بأبسط حاجات الطفل وبحقه في تربية نظامية سليمة وفق ما تضمنه كل النظم والمواثيق الدولية. أليس من حقنا أن نفهم كيف نزج بالطفل وبمصالحه في تسويات لا ناقة له فيها ولا جمل غير إهدار مزيد من الرأس المال البشري؟ وما جدوى إصداع الرؤوس بالتشاركية في ظل اتخاذ قرارات أحادية غير مبررة تجعلنا جميعا في قفص الاتهام ب "اغتصاب" حق طفولة بريئة.