اثار قرار بلدية قرطاج إنجاز نصب تذكاري للقائد القرطاجني حنبعل في الاونة الاخيرة ردود افعال كثيرة تراوحت بين الترحيب و الاعتراف بعظمة الرجل ، و الاستهجان الصادر عادة عن فئة اجتماعية اقرب الى السطحية او السذاجة منها الى الاتزان والرصانة أو الرأي السديد . و لا غرابة ان تشمل مثل هذه الردود او المواقف فئة واسعة من التونسيين و خصوصا في هذه الفترة بالذات التي استوت فيها المفاهيم و ضربت فيها القيم … أضف الى ذلك ، استقالة النخب الفكرية التي كان من المفروض ان تدافع عن مثل هذه القرارات و تشرح للرأي العام معنى تكريم أعلام البلاد و عظمائها و تؤكد لهم قيمة . ان التنكر لاعلام البلاد بات من الطبائع السيئة لغالبية التونسيين وهي ظاهرة تعود في الحقيقة الى مئات السنين ربما بسبب الغزوات التي تعرضت لها البلاد على امتداد تاريخها و محاولة كل غاز محتل طمس ثقافة أهلها و غرس ثقافته الدخيلة لديهم ، و الا لماذا يتنكر عديد التونسيين مثلا لأصولهم الأمازيغية او البربرية و يدعون انهم من أصول اخرى عربية و تركية و أندلسية معتقدين انها ارقى من اصولهم الطبيعية . و ما استهجان قرار إنجاز نصب حنبعل الا انعكاس لهذه الطباع السيئة التي ربما تكشف حتى عن اسباب غياب او ندرة الأبحاث و الدراسات عن حنبعل لدى باحثينا و الباحثين العرب عموما . هل لانه بونيقي غير عربي و لم يلحق بالدين الإسلامي ؟ لا يمكن في كل الاحوال تجاهل او استنقاص او التنكر للقائد القرطاجني حنبعل و قيمته التاريخية اذ مازال الرجل الى اليوم يؤرق علماء الغرب و الباحثين في مختلف العلوم التاريخية و الانتروبولوجية و العسكرية والجغرافية ، حتى انه تفوق من حيث عدد الكتب و الأبحاث والوثائق التي تناولت سيرته و بطولاته ، على اشهر الكتب السماوية المقدسة ، اي ان ما كتب حوله يعادل حسب اخر الأبحاث و الإحصائيات ، أضعاف ما كتب عن القرآن و الإنجيل. و يذكر ان قراءة كل ما كتب حول حنبعل تستوجب عمرين او حياتين و نصفا بلا نوم و لا راحة ، اي اكثر من 150 عاما ! ولسائل ان يتساءل لماذا كل هذا الاهتمام او الانشغال بشخصية حنبعل و خصوصا لدى علماء الغرب الذين يصفونه تارة بالعظمة كما في كتاب « Hannibal the great : crossing the alps « لكين سيباندا ( Ken Sibanda ) و اخرى بالهمجي او المتوحش ( Barbare ) و الدموي أو « السيكوباتي « كما في فيلم « Révolutions Barbares « و فيلم « Le Panthéon des tordus _ Hannibal « . كما عرضت قناة ARTE الفرنكوالمانية حديثا فيلما وثائقيا عن هذه الشخصية المحيرة بعنوان « حنبعل الفاتح « ( Hannibal le conquérant ) تناول فيه فريق الفيلم لاول مرة رحلة حنبعل في جبال الالب من وجهة نظر جغرافية، وهي اول مرة حسب فريق الفيلم يقع فيها اعتماد علم الجغرافيا في دراسة شخصية حنبعل . ان غالبية الابحاث و الدراسات المنجزة حول حنبعل تعود في مراجعها بالاساس الى ما دونه الرومان و المؤرخون الذين وثقوا للإمبراطورية في تلك الفترة ، على غرار تيت ليف ( Tit - live ) و بوليب ( Polybe ) المؤرخ اليوناني الذي أسره الرومان عقب احتلال بلاده ، و ربما من هنا يطرح السؤال ، أو بالأحرى تبدأ المسألة كما يقول شكسبير ، اذ لا توجد مراجع تذكر من الحضارة القرطاجنية تحدثت عن حنبعل بسبب الدمار الكبير الذي الحقه الرومان بقرطاج حتى انهم احرقوا كل شيء يمكن ان يوحي بان هناك حضارة وجدت في وقت ما اسمها قرطاج . و باستثناء بعض كتابات ماغون العالم الفلاحي القرطاجني ، تكاد الحضارة القرطاجنية تنحصر في شخصيتين لا غير ، حنبعل و ماغون ، في حين تؤكد عديد النقوش البونية ان قرطاج عرفت عشرات العلماء و الفلاسفة و الشعراء الذين دمر الرومان آثارهم و حرق كتبهم و منها الجزء الأكبر من مدونة ماغون . لن يتوقف الغرب عن الأبحاث و الدراسات في شخصية حنبعل و سيرته ما لم يتوصلوا الى فك رموز البيئة و المحيط اللذين عاش فيهما لان المحيط الذي ينتج شخصية في قيمة حنبعل قادر على انتاج العشرات منه على الأقل في تلك الفترة ، و بالتالي وجب البحث عنهم و خصوصا آثارهم و كتاباتهم او إبداعاتهم . الواضح و الحتمي ان حنبعل كان شخصية عظيمة ، و الا لماذا يواصل الغرب الاهتمام بشخصية مر عليها اليوم اكثر من ألفي عام ؟