ترددت كثيرا في الكتابة في هذا الموضوع ولكن كتبت، إيمانا مني بأن السياسة في عمومها شأنا عاما يهم المواطن المسحوق أكثر من السياسي الساحق خاصة وأن السواد الأعظم من الشعب مصدوما من الفشل السياسي الذريع ومن انسداد الأفق الإقتصادي المشفوع بإختناق إجتماعي غاية في الخطورة ومنذرا بما لا تحمد عقباه. فعندما تصبح الدولة في إقتراض دائم لا يقف ولا ينتهي ليس بغاية الإنماء بل لخلاص الأجراء ولسداد الديون المثقلة بالفوائض،أليس ذلك شأنا عاما؟ ثم، أليس الأمن المالي» la sécurité financière « ومنه الأمن الإقتصادي»la sécurité économique» في صميم سيادة الدولة وشأنا عاما بامتياز يهم الغني والفقير على حد سواء؟ وعندما ينهار الدينار وتنهار معه المقدرة الشرائية ويغرق المواطن في الخصاصة والاحتياج، وعندما يسود الفساد ويكره المواطن وطنه ويبيعه بأبخس الأثمان لأول مشتري، وعندما يصبح الموظف مهما علا شأنه حبيس أجرته ويده على قلبه إلى حين الإفراج عن»الشهرية» أليس هذا شأنا عاما؟ وعندما يصبح الإرهاب والتهريب والتهرب الضريبي ينخر البلاد،أليس ذلك شأنا عاما؟ وعندما وعندما، والأمثلة لا يمكن عدها ولا حصرها.. لذا يحق لي القول، والبلاد على شفا حفرة ، بأن الحل ليس في معاداة الأحزاب السياسية لبعضها البعض الشيء الذي يولد الضغينة والبغضاء وليس في الإجهاض على حزب حركة النهضة والمطالبة بحله أو باقصائه من اللعبة السياسية كما ذهبت إلى ذلك بعض الأحزاب ومنها بيان حركة نداء تونس الأخير وهو أمر غير سائغ ولا مستساغ بلغة السياسة وبجميع أدوات التحليل العقلاني وكذلك الشأن بالنسبة للخطاب الأخير لحركة النهضة الذي كان موغلا في التحدي فضلا عن كونه كان مناهضا لأدوات السياسة الرصينة. الحل أراه بداية في ترويض المارد الذي لا زال يسكن بعض نفوس أبناء حركة النهضة دون التفكير في إقصاءها ولا تقويضها لأن هناك استحالة مطلقة إذ أنها لاعبا أساسيا في المنظومة السياسية والحكمة تقول أنه « ليس من مصلحة الأعرج أن يكسر عكازه ولو على ظهر خصمه». الحل ثانية في لم شمل المعارضة المؤثرة والفاعلة في الحياة السياسية والتي هي لا تزال مهمشة ومغيبة إلى حد كبير عند أخذ القرارات المصيرية والعمل على تقويتها ورص صفوفها لإيجاد القدر الأدنى من التوازن السياسي في إطار عائلات سياسية ويجب على حركة النهضة أن تساهم في ذلك بما لها من حضور وثقل إجتماعي ضرورة أن الإذعان لهذا المنحى يصب في مصلحة تونس عموما كما يصب في مصلحتها العاجلة والآجلة لسبب بسيط جدا، هل هناك فريق قوي في أي رياضة جماعية يستسيغ اللعب ضد فريق ضعيف؟ قطعا لا، لذلك فإنه من أوكد الواجبات المحمولة على حركة النهضة المساهمة بجدية في إيجاد توازنات سياسية مرشحة للدوام وخوض الرهانات بجدارة وبكفاءة سياسية في إطار إنتخابات شفافة ونزيهة تفحم الصديق وتغيظ العدو. إن الدولة على ما هي عليه من ضعف ووهن غير قادرة على تحمل الحروب السياسية الطاحنة والمدمرة ومن يقول بخلاف ذلك فهو إما دغمائي أو أعشى يقدر النور بمقدار عشاه أو تنقصه جرأة البيان وفصاحة اللسان. رجاء، إن كانت للسياسيين معارك وخصومات فأجلوها إلى مواعيد لاحقة حتى يستقر الحال على المستوى السياسي وخصوصا على المستوى الإقتصادي فتونس معطبة أيما عطب وتعيش يوما بيوم au jour le jour ، فلا تقطعوا حبل الوفاق وإن كان رخوا، فما نفع الديمقراطية إذا كانت الدولة كسيحة؟ نريدها ديمقراطية مواطنية،تضامنية وتشاركية une démocratie citoyenne, solidaire et participative نريده مشروعا سياسيا مدنيا ديمقراطيا تونسيا صرفا بعبق رائحة الأرنج وبطعم دقلة النور وبنكهة زيت الزيتون لا يتداخل فيه الغرب ولا الشرق... علما بأن العمل السياسي action politique يشبه كثيرا العمل الرياضي action sportive فليس دوما الفريق الأقوى هو الذي يكسب في نهاية المشوار، والخزان الإنتخابي في معظمه ليس مضمونا والناخب عموما مصلحي ومزاجي النزعة والهوى فلا تحكمه عقيدة وثوابت سياسية قوية متأصلة لا تتزعزع عدى النزر القليل والسياحة الحزبية خير دليل على ذلك وتدل دلالة واضحة على الإفلاس الحزبي والسياسي «فكيف ما يكون المنتخب يكون الناخب « l›élu est le corollaire de l›électeur . الرهان السياسي كما الرياضي فيه الاستقطاب والتعبئة وفيه أكثر المناورة والتكتيك واقتناص الفرص خاصة وأنه محفوفا بالمخاطر والخطر الصفر غير موجود في السياسة ومن نسج الخيال le risque zéro ne figure pas dans la politique. إذن فمسؤولية البلاد جماعية وتزر على النهضة أكثر مما تزر على غيرها ضرورة أن النهضويين لا زال معضمهم رهين عداءات الماضي- وإن كانوا ساهموا فيها بقسط ما بعدم التدبر وعدم حسبان العواقب- وكذلك المواطن لازال ينظر إلى حركة النهضة بعين الحيطة وحتى الريبة وعليها حينئذ تعديل خطابها وتقويم أساليبها واتخاذ المراجعات اللازمة بما يتماشى والمصلحة العليا للبلاد، فلا صوت يعلو على صوت تونس، والعمل السياسي عموما يجب أن يكون في كنف المشروعية والشرعية وفي إطار قانون الأحزاب الجاري به العمل وإلا ما الفرق بين حزب سياسي وأي تكتل آخر مارق عن النواميس ولئن كانت له قاعدته الجماهرية، فالحلال السياسي بين وحرامه بين وليس بينهما أمور مشتبهات. كذلك، يكفينا من العشوائية والشعبوية والفنتازيا السياسية fantaisie politique اللامسؤولة التي أغرقت البلاد في الوحل إلى العنق نظرا إلى طوفان عدد الأحزاب الجارف على شاكلة طوفان الأمطار دون تخطيط ولا تدبير ودون إقامة السدود، نعم الأحزاب السياسية الكبيرة هي بمثابة السدود وبدونها لا يستقر الحال وليس هناك أمان سياسي sécurité politique يوفر الاستقرار، السيرورة والديمومة السياسية. أنظروا إلى عدد الأحزاب الذي لا يتعدى أصابع اليد في الدول الضاربة في الديمقراطية وكيف هي منصهرة في عائلات سياسية متآلفة رغم إختلاف الرؤى. وأقولها أخيرا بكل حياد ومسؤولية، بفلسفة الفقيه لوفاسور levasseur وبلغة الأعاجم: il faut agréger ce qui est désagregé et pas désagréger ce qui est agrégé. أملي أن يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه وأن تتصالح المصالح وأن تربأ الأحزاب الكبرى بنفسها عن التجاذبات والمهاترات التي لا طائل من ورائها عدى إرهاق البلاد والعباد وإن تواصلت الأمور بهذا الشكل لما وجدوا من ينتخبهم في المحطات الإنتخابية القادمة ولما وجدوا كذلك دولة قابلة للحكم بل هشيم دولة. مرارة الحقيقة خير من حلاوة الوهم. في كلمة: كونوا خصوما في السياسة لكن شركاء في الوطن...