الجانب الشخصي الذي غالباً ما يكون من أسرار الدولة عند رؤساء الدول، فتحه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي على مصراعيه أمام "العربي الجديد": علاقته بالراحل الحبيب بورقيبة، وتفاصيل يومه الرئاسي، ودور عائلته في مهامه الرئاسية، وتوصيفه السياسي لنفسه بين يمين ويسار، فضلاً عن رؤيته طبعاً للواقع العربي ومآلاته. جميعها عناوين عريضة يفندها الباجي، مثلما يحلو لكثيرين أن يسموه. يجمع الرجل في شخصه خصائص تجعلك مشدوداً إليه، بدءاً من المظهر الموروث عن جذوره التركية، وأناقة الملبس، وحسن الحديث، وصفاء الذاكرة، مما يجعله يستحضر دائما تجارب الماضي. كما أن السبسي يتمتع بصحة جيدة رغم تجاوزه التسعين عاماً. يعود السر في ذلك إلى نومه باكراً، وحرصه على التوازن في نظامه الغذائي، وإصراره على ممارسة الرياضة فضلاً عن غرامه برياضة المشي يومياً. * كيف تقضي يومك الرئاسي؟ أستيقظ باكراً، وأصبح في مكتبي عند الثامنة صباحاً، وأعود إلى البيت لتناول الغداء عند الواحدة ظهراً. ونظراً لقرب مكان إقامتي من مكتب العمل، تراني دائماً أستجيب لكل طارئ وأردّ على أي اتصال هاتفي يخصّ نشاطي كرئيس للدولة. وإن لزم الأمر أن أعود مساء إلى المكتب فإني لا أتردد في القيام بذلك. المسألة الأخرى الثابتة في برنامجي اليومي تتعلق بكوني مغرماً بالمطالعة منذ الصغر، وقد بقيت وفياً لهذه العادة حتى الآن، لهذا، رغم مشاغلي الكثيرة، أخصّص على الأقل ساعة كل يوم للقراءة. وعندما كنت أدرس في فرنسا، كنت أنهي حصة المطالعة مع السادسة صباحاً، مع الملاحظ أني لا أذهب إلى أي مكان إلا عند الضرورة، حيث تجدني باستمرار إما في البيت أو في المكتب. ولو تسألني عن آخر مرة غادرت فيها القصر الرئاسي أجيب بأن ذلك حصل عندما ذهبت لزيارة رئيس الحكومة الحبيب الصيد في المستشفى. أفعل ذلك لأخفف من مشقة أولئك الذين يحرسونني. بابي مفتوح لكل من يرغب في مقابلتي، ولهذا خصصت مساحة لذلك تستمر يومياً بين الساعة السادسة والثامنة مساء. * ما هو الكتاب الذي كنتَ بصدد قراءته خلال الأيام الأخيرة؟ قد لا تصدق عندما أقول لك بأني بصدد قراءة كتاب عن وينستون تشرشل رئيس الحكومة البريطاني. أردت أن أعرف كيف نجح هذا الرجل بمفرده في تغيير موقف العالم تجاهه، وما عاناه من عدم الاعتراف بالجميل، من قبل من أحسن إليهم وساعدهم، والذين نجحوا في إخراجه من اللعبة السياسية. لهذا، أنا شخصياً لا أغترّ بما أنا فيه حالياً، ومستعد دائماً لمواجهة كل الاحتمالات. وعندما كتبت كتابي عن بورقيبة ذكرت فيه ما قلته له ذات مرة: ليس من حقك ألا تعرف أن نكران الجميل هو تكريم الشعوب الكبيرة للرجال العظام. وقد ذكّرته بأشياء قالها من قبل، لكنه للأسف لم يلتزم بها عملياً. * لماذا كل هذا الوفاء لشخص بورقيبة رغم المشاكل العديدة التي حصلت بينكما؟ بصراحة، وإحقاقاً للحق، تعلمت كل شيء من بورقيبة. عشتُ يتيماً منذ الصغر، مات والدي حين كنت في التاسعة من عمري حيث كنتُ كبير إخوتي وأصغر أشقائي صلاح الدين كان عمره آنذاك أربعين يوماً. للتاريخ أيضاً، بورقيبة هو الذي اختارني ولستُ أنا الذي اخترتُه. أقول هذا بتواضع. كنتُ صديقاً لابنه الذي كان زميلاً لي في الدراسة، بمعهد الصادقية ثم في الجامعة، وكان دائماً يقول لي إن والده مختلف عن السياسيين الآخرين، ولم أصدق مثل هذا الكلام وناقشته فيه. فعندما تحدث مع والده ونقل له موقفي منه ومن عموم السياسيين يومها، قال له بورقيبة آتني به. وفعلاً، عندما التقيت ببورقيبة للمرة الأولى، تغيّرت عقليتي تماماً، ولاحظت أن لديه خاصية لا يملكها غيره. لم يكن رجلاً يحب المال ويلهث وراءه. صدقني عندما أقول لك إن بورقيبة لم يكن يعلم القيمة الحقيقية لوحدة الدينار، هل يصلح لشراء منزل أم علبة سجائر. لقد عاشرته ثلاثين عاماً وليس يوماً أو بضعة أيام، ولم أتخلَّ عنه أبداً. صحيح اختلفتُ معه، ولكنني أشهد بأنه لم يتخلَّ عني. وعندما توالت الهجمات ضدي هو الذي دافع عني. على سبيل المثال، كنت وزيراً للداخلية وانتقلتُ إلى سويسرا والتقيت بالنقابي، أحمد التليلي، في الفترة التي كان بورقيبة غاضباً عليه. بسبب هذا اللقاء، قامت حملة واسعة ضدي قادتها عديد الشخصيات الهامة في الحزب، مثل أحمد بن صالح ومحمد الصياح وغيرهما. وبالرغم من أن مقابلتي لأحمد التليلي كانت بمبادرة مني، إلا أن الرئيس بورقيبة سارع إلى وضع حدّ للهجوم على شخصي، وقال للوزير الأول (رئيس الوزراء) يومها الباهي الأدغم: «قل لهم إني كلفت الباجي بهذه المهمة»، وفعل ذلك دفاعاً عني. كانت لبورقيبة ثقة في مواهبي، وأذكر أني كنت معه عندما توجهنا إلى المكتب البيضاوي في واشنطن للقاء مع الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، وقد أعددتُ له بهذه المناسبة نصاً لخطاب سيلقيه، فنصحه بعض أعضاء الوفد التونسي بإلغاء الفقرات التي تتحدث عن القضية الفلسطينية. وعندما بلغني ذلك، ذهبت إليه وقلت له أنت الرئيس ولست أنا، لكن إذا قبلت بالتخلي عن هذه الفقرات فإن زيارتك ستفقد أي معنى. لم يعلق على ملاحظتي، لكن علمت في ما بعد أنه طلب إعادة الفقرة إلى نص الخطاب، وقال لأعضاء الوفد إنه الباجي قائد السبسي ويعرف ما الذي يفعله. وعندما دخلنا البيت الأبيض، كانت فلسطين أول مسألة تم طرحها عليه من قبل فريق الرئيس ريغن، وهو ما أفرحني كثيراً، لكنها فرحة لم تدم طويلاً لأن الرئيس بورقيبة فاجأني وفاجأ الجميع عندما خاطب الرئيس الأميركي بقوله «سيدي الرئيس أحيل الكلمة لوزير خارجيتي، ليتحدث باسمي عن هذا الموضوع». هكذا وجدت نفسي في ورطة، وعندما أتممت إجابتي قال بورقيبة للرئيس الأميركي وأمام الحاضرين: سيدي الرئيس هذا ما كنت سأقوله بالضبط رداً عن سؤالكم. كانت بيننا علاقة خاصة. لهذا السبب أجد نفسي غير قادر على أن أتخلى عنه. لكن أقول بكل وضوح إنني لست وريثه، ولكنه يبقى رمزاً، ويكفيه فخراً أن رفع تونس إلى السماء. * كثر الحديث عن علاقتكم بأسرتكم، أريد أن أسأل عن مدى تدخل العائلة في مواقفكم وإدارتكم لشؤون الحكم؟ أؤكد بكل وضوح أن عائلتي لا دخل لها في شؤون الرئاسة وإدارة البلاد، وجميع من يعملون معي يمكنهم أن يشهدوا على ذلك. زوجتي تعيش معي، ولا تتدخل في المسائل السياسية سواء اليوم أو قبل هذا التاريخ، وذلك منذ 38 عاماً من حياتنا الزوجية، وما قيل عن هذا الموضوع وتمت إشاعته كان كذباً ومبرمجاً، مثل القول أيضاً إني أشغّل أفراداً من عائلتي. أؤكد بأني لم أعين من أفراد عائلتي أي واحد منهم في منصب وزير أو كاتب دولة أو مدير أو حتى معتمد. وقيل إن يوسف الشاهد زوج ابنتي، في حين أن لديّ ابنتين إحداهما متزوجة من شخص تنحدر أسرته من ولاية المهدية، والثانية متزوجة من طبيب، وهو الذي كلفته بما يخصني. فكل ما ينسج حول عائلتي ليس سوى عملية مقصودة وموجهة ضد شخصي. كما تحدثوا عن كوني أسعى إلى توريث ابني، وقد قلت لهم بأن عصر التوريث قد انتهى في تونس. هل قمتُ أنا بوراثة والدي؟ وهل ترك لي أصلاً ما أرثه سواء مالاً أو منصباً؟ اليوم أصبحت المناصب يتم الوصول إليها عبر الانتخاب. وقد نصحتُ ابني، وطلبتُ منه مغادرة حزب «نداء تونس» عسى أن يتوقف الذين يروجون لمسألة التوريث عن الإساءة لي. التوريث يقع عادة في الدولة وليس في الحزب. وكل ما أقوله لهؤلاء: لن تنجحوا في محاولاتكم المسيئة. فأنا الرئيس الوحيد الذي لم يعين أيّاً من أفراد أسرته في منصب سياسي. أنا أعرف ماذا أفعل وما الذي يجب عدم فعله. * ما الذي يمكنكم قوله للمواطنين الذين وعدتهم بأشياء عديدة خلال حملتكم الانتخابية، لكن لم تستطع تنفيذ ذلك بعد مرور أكثر من سنة عن تحملكم المسؤولية؟ ما وعدتهم به أقوم بتنفيذه منذ تولي هذا المنصب. ثم بماذا وعدتهم؟ * وعدتهم على سبيل المثال بتوفير الشغل وإنهاء حالة التهميش هذا صحيح، ولكن عليهم أن يدركوا بأن الرئيس لا يحكم بمفرده. ألا يوجد مجلس لنواب الشعب؟ لقد تقدمت بمبادرة إلى البرلمان في ما يتعلق بتسوية ملف رجال الأعمال، فإذا بهم أقاموا الدنيا ولم يقعدوها. هناك أقلية غير مؤمنة بالديمقراطية، والديمقراطية تعني ترك الأغلبية تحكم، مقابل أن تحترم الأغلبية الأقلية. وما يحصل الآن أن الأغلبية تحترم الأقلية في حين أن الأقلية ترفض احترام الأغلبية، وذلك من خلال تعمد النزول إلى الشارع. * ماذا تقول لليساريين، سواء الذين يقفون الآن ضدك أو لأولئك الذين ساهموا في تأسيس حزب «نداء تونس» ثم خرجوا من حزبك؟ عليهم أن يقبلوني كما أنا، وأنا وسطي ولستُ يسارياً ولا يمينياً، ولست إسلامياً لكنني مسلم. والآية واضحة في هذا الشأن: «وجعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً». هذه سياستي، وحتى الذين أدخلتهم معي إلى الحزب، قلت لهم منذ البداية أنتم يساريون لكن عليكم أن تنظروا إلى الوسط أكثر من نظرتكم إلى اليسار، وفعلت نفس الشيء مع الآخرين. يجب على جميع التونسيين القبول بالوقوف على أرضية الوسط. وحتى ممثل الجبهة الشعبية الذي استقبلته أخيراً، قال لي: ألم تقل بأن (حركة النهضة) و(نداء تونس) خطان لا يلتقيان؟ فأجبته بأن ذلك جزء من كلامي، وأن البقية هي قولي «لا يلتقيان إلا بإذن الله، وإذا ما التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله». فلا تحرّفوا الكلام عن موضعه. أنا أعتقد بأن الله سبحانه وتعالى له دخل في تغيير الأوضاع. * على ذكر الوسطية، يجري الحديث عن تقسيم للأدوار بين علمانيين وإسلاميين، فهل تؤمنون بهذا التقسيم؟ لا أؤمن بهذا التقسيم. ولا أتبنى مقولة الإسلاميين. أذكر دائماً بأننا مسلمون، وعندما بدأنا بصياغة الدستور أخذت (حركة النهضة) تتحدث عن الشريعة وعن استنقاص حقوق النساء، لكنها عندما لاحظت وجود رفض لذلك عادت إلى الإسلام. وقد قيل يومها إن السبسي قد حوّل (الشيخ راشد) الغنوشي إلى إسلام تونسي، في حين أن الغنوشي هو الذي اقتنع بذلك. وعندها قلت له مرحباً بك، لأنه لو بقي متمسكاً بالإسلام السياسي لقاومته على ذلك. المهم أننا حققنا بذلك الاستقرار لبلادنا.