تحتاجُ الحياة الوطنيّة اليوم -أكثر من أيّ وقت مضى- إلى استعادة أجواء الثقة بما تفرضهُ من فهم متبادل لحقائق الواقع الصعب الذي تمرّ به بلادنا على أكثر من صعيد وإرادة مشتركة للخروج نحو آفاق أرحب في أسرع الأوقات. لقد ألقت الأزمة الحادّة التي انطلقت منذ نهاية شهر ماي الماضي بظلال كثيفة على الوضع العام في البلاد. وخلّفت الكثير من الغموض والالتباس في مسار العملية السياسيّة وتشكلات المشهد السياسي وطبيعة التشكيل الحكومي وربّما أيضا في خفض منسوب الثقة بين مختلف الفاعلين والقوى الوطنية، ممّا عسّر سُبل التواصل وهدّد عرى الوحدة الوطنية والإيمان المشترك بالمسؤوليّة الجماعيّة في إنقاذ البلاد ممّا تُجابهُه من مشاغل ومشكلات اجتماعية واقتصادية ومالية خانقة. ولا بدّ من عزم وطني صادق، يُشارك فيه الجميع وتتلاقى فيه كلّ الإرادات، لإيقاف نزيف التشنّج والحدّ من درجة التوتّر وتحكيم العقل وفق ما هو واضح من معطيات الواقع الجليّ والانضباط لما يسوس مختلف العلاقات من ضوابط دستوريّة وضرورة انقيادها كلّها إلى علويّة القانون. ليس بين الأحزاب الآن معارك ثأر أو تصفية الحسابات القديمة والجديدة. بل بينها يجب أن يكون تعاون مثمر كلّ من موقعه وحسب ما يتوفّر له من إمكانيات للمساهمة في تحريك الأوضاع نحو الأفضل، لا الانشداد الى الخصومات الجانبيّة والتجاذبات العقيمة. وليس بين مؤسّسات الدولة ضرورة إلاّ التكامل والعمل المشترك لحماية البلاد من كلّ الانحرافات أو المنزلقات الخطيرة ومزيد تعزيز صورة دولة القانون واحترام حقوق الإنسان، الدولة الحريصة على استكمال مسار تجربة الانتقال الديمقراطي خاصة وهي على أبواب موعد هام نهاية العام المقبل. كما أنّه ليس بين الحكومة واتحاد الشغل معركة وجود حاسمة. بل بينهما اختلاف وتباين في الآراء. وكلاهما يمتلك حججا وبراهين على مقاربته. وكلاهما يمتلك جزءا من الحقيقة ولا أحد يمتلك الحقيقة كاملة. ولا خيار لهما الاّ تجنّب العناد والمكابرة والعودة سريعا إلى طاولة الحوار للوصول الى حلول لأزمة الملاءمة بين قدرات ميزانية الدولة والمطالب الملّحة للرفع في الأجور في قطاع الوظيفة العموميّة وتحسين القدرة الشرائيّة لعموم المواطنين. كما أنّ محاولات الضغط على القضاء أو إرباك الأداء الأمني أوالركوب على الأحداث والمستجدات والسعي الى توظيفها في الصراعات السياسية والحزبيّة أو حروب التموقع، باتت فاقدة لأيّ مصداقية ولا أفق أمامها لتحقيق أي كسب. تحتاج اللحظة التاريخية التي تعيشها بلادنا إلى النأي بالسلوك السياسي العام عن ضروب الاستقطابات، مهما كان صنفها، ونزع فتيل الفتن والكفّ عن إشعال الحرائق والتوجُّه رأسا الى العمل على استعادة أجواء الثقة من جديد لتحقيق المأمول والاستجابة لحاجيات البلاد العاجلة.