تونس «الشروق»: انتهت معركة التحوير الوزاري تماما كما أرادها رئيس الحكومة وأضافت مكسبا آخر في توفير أغلبيّة برلمانيّة مُريحة، ولكن وبخلاف التعاطي مع مشكلات الحكم وأساسا منها المطلبيّة والعلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل ووضع المالية العموميّة، فإنّ رهانات أخرى ماثلة أمام يوسف الشاهد، من أبرزها أنّه مدعو الى توضيح مشروعه السياسي، وهي دعوة قد تكون اليوم أكثر إلحاحا من المؤيدين له ناهيك عن حلفائه في الحكومة الجديدة. وكشفت المستجدات الأخيرة في علاقة بكتلة الإئتلاف الوطني، وآخرها اجتماع أوّل أمس الأحد الذي أشرف عليه سليم العزابي مدير الديوان الرئاسي السابق، وتصريحات عدد من مؤيدي الشاهد، أنّ العمل جار، وربّما هو في مراحله الأخيرة، للإعلان قريبا، عن تأسيس كيان سياسي (حركة أو حزب) يُعبّر عن تطلعات الشاهد والمتجمّعين من حوله. خيار التأسيس يبدو أنّه أصبح مفروضا أمام الشاهد وجماعته خاصة وأنّ باب العودة لنداء تونس أو افتكاكه أضحى أمرا صعبا، في المنظور القريب على الأقل، في ظل توتُّر العلاقة مع رئيس الجمهورية، الرئيس المؤسّس للنداء، ومنعرج الاتهامات المتبادلة مع القيادات الحالية للحزب والتي كان من آخرها حديث سليم الرياحي الأمين العام عن الانقلاب ورفع الأمر الى القضاء العسكري. ولكن خيار التأسيس لا يبدو أنّه يسير، إذ هناك -على الأقل- تحديان أساسيان يُواجهانه: 1- جانب مضموني (المرجعية الفكريّة والسياسيّة)، وهذا يفترض شروطا للتمايز عن الموجود وأيضا للإقناع بصواب الطروحات. 2- جانب مادي (الهيكلة والتعبئة والماكينة الانتخابية)، وهذا يستلزمُ قياسات جيّدة للأحجام وقراءة الجسم الانتخابي والحزبي الوطني بشكل دقيق لضمان المردودية والنجاعة وتأمين فرص الاستمرار. توازن وملء الوسط لا مناص القول اليوم باختلال التوازن في المشهد السياسي لفائدة حزب حركة النهضة، وهو مشهد شبيه بما عاشته البلاد إبان حكم الترويكا، فهناك مساحة تحرّك أمام الشاهد لتشكيل كيان منشود قادر، نظريّا، على تعديل المشهد وتحقيق التوازن المطلوب تماما كما فعل الباجي قائد السبسي بداية العام 2012. ويجد هذا التوجُّه دعائم قويّة له في وضعيّة التشتّت التي تشهدها العائلة الوسطيّة الحداثيّة وأيضا تواصل تفكُّك العائلة الدستوريّة، الحاملة هي أيضا في جزئها الكبير لمرجعيات حداثيّة وسطية استنادا إلى التجربة البورقيبيّة وإرث الحزب الدستوري. لهذا يجد الكيان الجديد المفترض سندا واقعيا قويا في مطلب تحقيق التوازن وسندا مضمونيّا في استثمار الأبعاد التي ينطوي عليه الفكر الوسطي الحداثي. هيكل بهدف انتصار انتخابي بعد الرصيد الإيجابي المتراكم لرئيس الحكومة، من المستبعد أن يخضع التأسيس إلى الأسس الكلاسيكية والاعتيادية التي لازمت التشكيلات الحزبيّة المختلفة في تونس ما بعد الثورة، إذ من المفترض أن لا يكون "الحزب الجديد" استنساخا للسلوك الاعتباطي الذي انخرطت فيه النخبة والذي رفّع عدد الأحزاب الى أكثر من 210 حزبا، هي أشبه بحوانيت صغيرة. وهذا هو التحدي الأصعب، كيف نؤسّس هيكلا قويا متينا يقطعُ مع المألوف ويكون قادرًا على كسب الرهان الانتخابي المنتظر نهاية العام القادم؟ في ظل الظرفية الصعبة التي آل إليها نداء تونس، فباستثناء حركة النهضة والى حدّ مَّا الجبهة الشعبيّة، فقد عجز مختلف المبادرون والمؤسّسون عن إيجاد هيكل حزبي فعلي قادر على المنافسة الانتخابية وتأمين فرص التداول السلمي على السلطة، وهذا هو التحدي المطروح على مشروع الشاهد الجديد، أن لا يكون مجرّد رقم يُضاف إلى سجل الأحزاب. مع النهضة ومتمايز عنها وسيكون أمام هذا الهيكل الجديد المنتظر أيضا رهان التموقع في المشهد، هذا التموقع الذي بات اليوم مرتهنا في جزئه الكبير إلى الموقف من حركة النهضة، وأمام ما أصاب خيار ضد النهضة، الذي قام عليه نداء تونس أساسا، من وهن وضعف وارتجاج، فلن يكون التموقع سهلا، على اعتبار صعوبة استعادة الشعار القديم المتآكل، أي ضد النهضة، في ظل هذا التشابك الحالي معها والحديث عن تحالف استراتيجي معها. قاعدة التموقع الجديد لا تخرجُ بالضرورة عن قاعدة التموقع ضمن حدود الاعتراف بالتعدديّة والمنافسة السياسيّة الديمقراطيّة والتسليم بالمكانة المهمة لحركة النهضة في المشهد الوطني حاضرا ومستقبلا، ولكن هذا الأمر سيبقى معتلاّ، فجزء مهم من القاعدة الانتخابيّة والنخبة الحداثيّة الوسطيّة ما تزال عنيدة في التشهير بحركة النهضة والتشكيك في صدقيّة تحوّلها إلى حزب سياسي مدني، وهؤلاء يجدون ضالتهم في الذهاب صوب الجبهة الشعبيّة أو نداء تونس بعباءته القديمة الجديدة في العداء للنهضة، فالرهان هو التمايُز عن النهضة دون الوقوع في شراك الاقصاء والاستبعاد أو الشيطنة. وفي هذا الصدد، سيكون أمام الشاهد فرصة ثمينة لاستثمار التحاق كلّ من حركة مشروع تونس وحزب المبادرة بالتحالف الحكومي والبرلماني لاستقطاب جزء من العائلة الحداثيّة الوسطيّة (الدستوريّة واليساريّة) المؤمنة بالاختلاف والبناء على المشتركات الوطنية الكبرى بعيدا عن الإقصاء والاعتبارات الايديولوجيّة، لذا لم يكن غريبا أن تتداول الكواليس فرضيّة للاندماج مع الهياكل الموجودة للحزبين أو أحدهما، كما ليس غريبا خصّ كمال مرجان بحقيبة وزارية اعتبارية ومكتب مرموق في القصبة. وستشكّلُ الاستعدادات للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة دونما شكّ مجالا لتكريس هذا الاندماج وهذا التموقع الجديد "لستُ مع النهضة، ولستُ ضدّها".