يعيش المشهد السياسي على وقع فوضى كثيفة تتَّصف في الكثير من أوجُهها بنوع من العبث وعدم الجديّة في التعاطي مع شواغل البلاد وقضاياه الحقيقيّة. في الوقت الذي تتعطّل فيه الحياة المدرسيّة على نحو مؤلم، وفي الوقت الذي تتضاعف فيه الضغوطات الاجتماعيّة وتزدادُ فيه مخاوف القلق والتوتّر وعدم الإحساس بالأمان لدى الكثير من العائلات والأسر نتيجة تراجع مفزع للقدرة الشرائيّة وتفشي مظاهر الإجرام المختلفة من سرقة ونهب وتحيّل وعنف، وفي الوقت الذي تؤكّد فيه كلّ المؤشرات دقّة الظرف الاقتصادي وصعوبات المالية العموميّة وتواصل انهيار قيمة العملة الوطنيّة يتزامن كلّ ذلك، مع انخراط غريب للنخبة السياسيّة في حروب التموقع والمصالح والغنائميّة ومعارك الشدّ والجذب وتصفية الحسابات ودفع البلاد دفعا إلى سيناريوهات الصدام والمواجهة والتقسيم المجتمعي والمس من قيم العيش المشترك والقبول بالآخر المختلف والإضرار بتماسك أجهزة الدولة ووحدتها وانسجامها واستقلاليّة القضاء وعلويّة الدستور والقوانين التي تحكمُ البلاد. لا شكّ في أنّ البلاد تعيش فرزا سياسيا وحزبيا جديدا، أشبه بالمخاض العسير. وإنّها قادمة على موعد انتخابي هام ومصيري خلال الأشهر القليلة القادمة. ولكن لا شيء مُطلقا يُبرّر هذا «السلوك السياسي الأرعن» الذي بات السمة الطاغية لأجندات الكثير من الفاعلين السياسيّين. العاصفة الهوجاء الراهنة تعملُ على الإطاحة بكلّ شيء، بالقضاء والأمن ووزارة الداخلية والمؤسسة العسكريّة والحكومة والبرلمان والإعلام. وشوّهت مؤسّسة سياديّة في قيمة مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة. وأعادت اسطوانة الإقصاء والاستبعاد. إنّ المنافسة السياسيّة والحزبيّة، سلميّة مدنيّة، مجالُها فضاءات الحوار والتطارح الفكري الحضاري. وسبيل الفوز والوصول الى مواقع السلطة والحكم هو الاحتكام الى الإرادة الشعبيّة واحترام اختياراتها وفق ما ضبطه الدستور وتقرّه الأعراف الديمقراطية والقيم الإنسانيّة الكونيّة. فالخصوم السياسيّون لا يجب أن نعمل على هزمهم أو التخلّص منهم بالدسائس والمؤامرات والشيطنة وأكاذيب التآمر والانقلاب وتحويلهم إلى ملفات أمنيّة. فذلك شأن التسلّط والاستبداد وحكم العسكر. وسبق لبلادنا أن عاشت مثل تلك الممارسات على مدى عقود طويلة لم تخلّف إلاّ المآسي والجراح وإضاعة فرص ثمينة للتقدّم والتنمية وتطوير الدولة والنهوض بالمجتمع. فمثل هذه المعارك فاشلة. وهي مضيعة للوقت وهدر للجهد.فالسياق التاريخي الذي دخلته بلادنا منذ الثورة عصيّ عن الإيقاف أو التكسيروأقوى من كلّ محاولات الجذب الى الخلف. فمكسب الحريّة قائمٌ لا محالة ودون رجعة. والانتقال الديمقراطي يُراكم النجاح تلو النجاح. وسيصلُ في النهاية ببلادنا الى شاطئ الدولة الديمقراطية المستقرّة. من لم يستوعب جيّدا ما جرى في بلادنا منذ 2011 أنّه، ومهما اختلفت القراءات والتأويلات، حصيلة مسار حضاري وتاريخي تراكمي طويل يُؤسّس لشيء جديد، يدفعُ بنفسه للبقاء خارج دائرة التأثير الإيجابي والمساهمة المسؤولة في استكمال لبنات تونس الديمقراطية الحداثيّة العصريّة المُتصالحة مع ماضيها الناظرة الى المستقبل بالكثير من التفاؤل.