كنت كمن هرب من القطرة فجاء تحت الميزاب. هربت من جامع إمامه يرفع وينصب كما يشاء ويفتري على الله أنّه يفتح الجنّة يومي الإثنين والخميس لا غير. هربت من جامع آل سعود إلى جامع الصومعة الملويّة في المركّب الجامعي المسمّى بصبرا وشاتيلا في اصطلاحنا عندما كنّا في السبعينات من القرن الماضي طلاّب علم وسياسة تتقاذفنا المذاهب وتتلاعب بنا الأحزاب حتّى تظاهرنا هاتفين منتصرين للحبيب عاشور : « خبز وماء ونويرة لا « وحتّى أوشكنا على حرب أهليّة يتنافس فيها على السلطة اتّحاد الشغل والحكومة، والمجاهد الأكبر يتربّص بمن يضحّي به كبش فداء ليخرج منتصرا دائما . أليس هو الزعيم القائد في الكفاح والضامن للنجاح؟ لنترك التاريخ بسواده وبياضه للمؤرّخين ونعود إلى « الميزاب» الذي هربت إليه فحسبتني في «طورا بورا» في معسكر طالبان، والحال أنّي في جامع يكتظّ بالطلاّب ويخطب فيهم داعية إلى الجهاد بالسيف على أنّه بعد القرآن هو آخر ما بقي بأيدي المسلمين لتقوم لهم قائمة فيصبحون كما كانوا بالأمس سادة العالم. وذاك هو جوهر الموضوع في جميع خطبه. فإذا طرأ طارئ كتقرير لجنة المساواة والحرّيات الفرديّة أدمجه في جوهر الموضوع مدعّما به حربه على أعداء الإسلام من عهد الرسول إلى اليوم جامعا ومسوّيا بين الكفّار والمشركين وبين الشيوعيين والرأسماليين والعلمانيين ومن ورائهم الصهيونيّون، هكذا ليستقيم الوزن والنغم ! وهكذا يكون تطبيع الإرهاب باسم الجهاد ! شاءت الصدفة، أن أنتبه إلى حضور صديقي المخرج التلفزي فإذا هو أيضا في انتظاري عند الخروج . عرضت عليه أن نلحق بالإمام مستعدّين للجهاد بشرط أن يكون معنا فيه حيث شاء في سوريا أو لبنان . ردّ عليّ صاحبي مبتسما : « إيّاك أن تعرّض نفسك للتكفير بإحراجه أو بالسخرية منه. واعلم أنّه يحرّض الشباب على الجهاد، أمّا هو فباق على هذا المنبر قائما بمهمّة مأجورة لينفق على ولده الذي عوض أن يرسله مع المجاهدين للموت أرسله إلى لندن للدراسة والشهادة .» وهكذا يفعل المنافقون بالأغبياء والجهلاء الذين يصدّقون بلا شكّ ولا نقاش شيوخ اللّحي المصبوغة والجلابيب المجرورة . لهذا أضحك عندما أسمع تصريحا لوزير الشؤون الدينيّة يطمئن به الشعب المسلم بأنّ جلّ المساجد تحت السيطرة وبأنّ شبابنا في منعة من الإرهاب عدا حالات معزولة . ولهذا أضحك أكثر عندما أسمع نداء لمحلّل سياسي أو لمسؤول أمني يستعجل به وضع إستراتيجيّة وطنيّة لمكافحة الإرهاب. لمثل هذا يقال : « انتظري يا دجاجة حتّى يجيك القمح من باجة « أو يقال : « مسكينة تونس « . وفيما يخصّني شخصيّا وجدت الحلّ أسوة بالمرحوم محمد الطالبي الذي يعرف تاريخ أولئك قديما وحديثا. وسأفعل مثله حفاظا على إيماني وأعصابي، وذلك بالمكوث في سيّارتي بجوار الجامع إلى أن ينتهي الإمام من قول ما شاء أن يقول . فإذا نهض الجمع الكريم للصلاة انضممت إليهم مفترشا سجّادتي فيما توسّعوا فيه من الرحاب المجاورة . فإذا انقضت الصلاة انصرفت مطمئنّ القلب، غير مهتمّ بأمر، كمن لم يسمع شيئا . وعدت إلى مكتبي لأقرأ وأكتب عسى أن أنفع . والله عليم بما في الصدور .