في المعوّذتين وسورة الإخلاص يبدأ الخطاب بالأمر «قل». ومضمون القول المأمور به هو الكلام الوارد بعد فعل الأمر، كالذي وضعنا بعده نقطتين وفتحنا ظفرين لما بعده، لكأنّ السورة تبدأ ب « أعوذ بربّ الفلق .. « أو « أعوذ بربّ الناس... « أو « هو الله أحد ...» أو يا أيّها الكافرون ...» أو « أوحي إليّ ... « والنبيّ (ص) وكلّ شخص قادر على إعادة هذا الكلام الملقى إليه ولو كان أمّيّا . لكنّ الاستثناء الوحيد يتعلّق بأوّل ما نزل من الوحي من سورة العلق. إذ جاء الأمر – على لسان جبريل للرسول – بالقراءة حتّى أنّه ردّ مرّتين أو أكثر بأنّه ليس بقارئ بما أنّه النبيّ الأمّي بالمعنى القريب المشتقّ من الأمّيّة أي الجهل بالقراءة والكتابة دون الثقافة الشفويّة المتواترة والشائعة. وإذا كان الأمر بالقراءة « اقرأ « لا بالقول « قل» وجب أن يتوفّر بين يدي الرسول نصّ مكتوب ليقرأ. والمرجّح أن يكون باللغة العربيّة لغة الرسول وقومه على صورة صحف إبراهيم وموسى وكلّ بلغته . ولكن ليس ثمّة أدنى إشارة إلى كتاب أو صحيفة مهما كان حاملها المادي، من ورق أو من طين أو من جلد أو من عظم أو من حجر النقش ممّا يعرفه العرب ومعاصروهم وغيرهم بلغات مختلفة . فكيف له أن يقرأ ؟ أليس لعدم توفّر نصّ بين يديه قال لجبريل : « ما أنا بقارئ « ؟ ولكن العجيب – في كلتا الحالتين من وجود النصّ مكتوبا ومن عدمه – أن يلحّ جبريل على الرسول في طلب القراءة كأنّه لا يعلم أنّه أرسل إلى أمّيّ جاهل بالقراءة والكتابة. والأعجب من ذلك أن يرسل الله تعالى جبريل إلى نبيّه الذي اصطفاه يأمره بالقراءة كأنّه سبحانه لا يعلم أو يتجاهل أنّ عبده جاهل بالقراءة. وهو الذي خلقه على الجهل بها في حين علّم الأنبياء من قبله ألوانا من الأسماء واللغات والصنائع والمهارات اليدويّة واللسانيّة من آدم إلى نوح إلى داود، مثلما علّم الإنسان ما لم يعلم، علّمه بالقلم أي بالكتابة، تليها القراءة. وكان الأولى أن يعلّم سبحانه محمّدا وهو المشرّف بختام الأنبياء والمرسلين . لعلّه خشي إن علّمه أن يلتبس كلامه بكلامه وعلمه بعلمه . ولكن – في نفس الوقت – وجد الرسول من أهله من يكتب. إذ كانت حفصة قادرة على الكتابة دون أن تخلط كلامها وكلام الناس وكلام محمد بالخصوص بكلام الله عزّ وجلّ . فأيّ خطر على كلامه تعالى من علم محمّد بالقراءة والكتابة ؟ بل لعلّ الحال يكون أفضل إذا تكفّل هو بنفسه بكتابة ما يوحى إليه بيده وقلمه بدل العناء بحفظه وتلاوته خوفا على نسيانه وضياعه والتباسه ممّا أوجب طمأنة ربّه إيّاه بتكفّله – جلّ وعلا – بحفظه وقرآنه، أي بقراءته وحفظه مكتوبا ... وما أبعد هذا المعنى عن المحفوظات التي غالبا ما تكون حفظا بلا فهم ولا تأمّل و لا تدبّر و لا عمل !