قرار الرئيس الأمريكي بسحب قوات بلاده من الأراضي السورية فاجأ الجميع وفي مقدمتهم أعضاء إدارته حيث سارع اثنان منهم من ضمنهم وزير الدفاع إلى تقديم استقالتهما... ومنذ الاعلان عن القرار انطلق المحللون في البحث عن أسباب وخلفيات هذا القرار المفاجئ. ومع أن الظفر بجواب ضاف عن كل التساؤلات التي تحوم حول هذا القرار الكبير والخطير يبقى صعبا إذ لم نقل مستحيلا فإن ذلك لا يمنع من تقليب الأمر ولو من باب قراءة مضاعفاته وارتداداته على مسارات الأزمة السورية. وحتى لا ننسى فإن قرار الانسحاب ليس جديدا بالنسبة للرئيس ترومب.. ذلك انه سبق وأن أطلقه في سياق وعوده الانتخابية كما لوّح به قبل أشهر ليتراجع في اللحظات الأخيرة.. ولئن حاول الرئيس الأمريكي تغليف قراره أو تعليله بالنزيف المالي الذي يسبّبه الانتشار العسكري الأمريكي في الأراضي السورية وبامتناع الأطراف المستفيدة منه عن الدفع فإن ذلك لا يكفي لتبرير قرار من هذا الحجم وفي هذه الظرفية الاقليمية والدولية الحرجة.. وخاصة فيما يتعلق بتطورات الأزمة السورية والرهانات الماثلة أمامها.. لماذا يقرّر الرئيس الأمريكي سحب قوات بلاده ليترك «حلفاءه» (قوات قسد خاصة) لمصيرهم في مواجهة آلة حربية تركية تضبط نفسها بالكاد وكانت تهدد بالعبور إليهم وطردهم أو دفنهم في كهوفهم كما توعد بذلك أردوغان حتى مع تواجد القوات الأمريكية هناك؟ ولماذا ينسحب ترومب والحال أن قضية ادلب لم تحسم بعد ومعها قضية فلول «داعش» الارهابي في محافظة دير الزور؟ ولماذا يخلي الساحة قبل تشكيل اللجنة الدستورية التي سيبني عليها مستقبل العملية السياسية في سوريا؟ وكيف يقبل بتواري قواته في الوقت الذي تميل فيه كفة النزاع بالكامل لصالح الدولة السورية ويستأثر مثلث روسيا وإيران وتركيا بتفاصيل الحل وفق مسار «استانا» ومن خلال مسار تنسيق ثلاثي ينجح رغم تضارب المصالح في رسم ملامح حل نهائي للأزمة السورية؟ وقبل كل هذا وبعده كيف يقدم ترومب على انسحاب احادي مفاجئ بهذا الشكل الذي يجعله يبدو وكأنه هزيمة استراتيجية للمشروع الأمريكي برمته في سوريا مع ما يعنيه ذلك من «هدية مجانية» لعدوّيها اللدودين وهما النظامان السوري والإيراني من جهة ومن طعنة في الظهر لحلفائه في الساحة السورية «قوات سوريا الديمقراطية» وفي الساحة الدولية وفي طليعتهم فرنسا وبريطانيا؟ لقد عوّدتنا الادارات الأمريكية المتعاقبة على ما يمكن تسميته بسياسة «الغموض البناء» وهي السياسة التي تمكنها من إخفاء أوراقها وتسجيل النقاط في كل الحالات حتى تلك التي تبدو فيها المشاريع الأمريكية وكأنها تتقهقر.. ذلك أنه وبالنظر إلى القوة الجبّارة والتأثير الكبير للولايات المتحدة فإنه يصعب تخيل حصول انتكاسة اسراتيجية لأمريكا.. وهو ما يحيل ربما إلى «صفقة كبرى» مع تركيا.. صفقة تمكّن ترومب من استعادة أردوغان بعد أن انساق كثيرا في الاقتراب من بوتين.. وتمكّن أمريكا من ظروف تحقيق أهدافها بأياد تركية ووقف النزيف المادي الذي يسببه الانتشار العسكري في منطقة مازال الصراع فيها مستمرا إلى أمد غير قصير.. لقد بدأ ترومب يكشف في تدويناته حجم الرهان على تركيا أردوغان غير عابئ بحلفائه الأكراد.. وهو ما قد يشي بعناصر تمكن من رسم ملامح إجابة لكل الأسئلة الحارقة التي طرحتها خطوته المفاجئة بسحب قواته من سوريا مع كل ما يطرحه ذلك من قلق لحليفه الكيان الصهيوني.