أبرزنا في مقدمات الأسبوع الماضي أهمية أن يكون للغة العربية معجمها التاريخي. ونوهنا بهذا الحدث الهام الذي تبنته دولة قطر بإطلاقها معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بإرادة سياسية سامية وبإشراف مباشر للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وحرص مديره العام «الدكتور عزمي بشارة» تكريسا لرؤيةٍ وإيمانٍ بالعمل العربي المشترك والكفاءات العربية والإدارة السليمة من خلال التعاون بين العلماء والهيئات التنفيذية والخبرات الحاسوبية وذلك بعد أن توقفت كل المبادرات العربية الأخرى التي حاولت ولكنها لم تقدر على وضع معجم تاريخي للغة العربية بدءا بإنشاء معجم اللغة العربية في مصر عام 1932 ومساهمة المستشرق الألماني «أوغست فيشر» الذي سعى إلى تسجيل تطور اللغة العربية حتى عام 300 للهجرة. وقد جاءت بعده محاولات أخرى في هذا الاتجاه. ولم تستمر وبالتالي لم تصل فعلا إلى إصدار معجم للغة العربية. وبعد حالة اليأس اللغوي العربي يتحقق هذا الحلم الذي قال عنه «د.عزمي بشارة» «لسنا أصحاب الفكرة إذن، ولكننا نحن الذين امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية». ويضيف «د.عزمي بشارة» «علمنا أن المسلك وعر والمهمة معقدة دونها مشقات أدركنا بعضها وجهلنا غيرها في تلك المرحلة. ولكن الرؤية والعزيمة توافرتا وتوافرت الرعاية الكريمة والمتفهمة التي منحتها للمشروع قيادة قطرية صاحبة رؤية. وتوافرت الثقة بالقدرات والكفاءات العربية والعمل الجماعي الممأسس وتسخير التقنيات الحاسوبية على نحو غير مسبوق». والواقع أن ما حققه معجم الدوحة التاريخي للغة العربية في خمس سنوات منذ بدء العمل فيه يعد إنجازا كبيرا وفريدا على المستوى العربي والدولي. ففي ثلاث سنوات تم إنجاز مائة ألف مدخل معجمي تغطي700 سنة إلى غاية 200 للهجرة على الرغم من خصوصية الصعوبات التي تميز العربية. وهي صعوبات تفوق أي لغة أخرى ُأرخ لها معجميا. فقد استغرق الألمان قرنا وعقدين من انتهاء 400عام فقط من تاريخ لغتهم. واستغرق العمل على المعجم التاريخي للغة الأنقليزية 70 عاما لينتج أول إصدار منه. وهي المدة نفسها التي قضاها علماء اللغة الفرنسيون في الانتهاء من تأريخ المفردات التي تندرج تحت حرف « أ». «الدكتور عزالدين البوشيخي» المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية قال لنا:»إن الأمة العربية أصبحت بوجود معجم تاريخي قادرة على أن تجمع تراثها الأدبي والديني والعلمي والثقافي المدسوس في النصوص جمعا واحدا. ينبني على ذلك أن الأمة العربية أصبحت قادرة على إضفاء طابع النظام على فكرها في سيرورته التاريخية كما انعكس في مرآة لغتها. إن الارتسام الذي خرجنا به وقد كنا من الذين أسعفهم الحظ حاضرين في هذه المناسبة هو ارتسام النخوة والاعتزاز بأن رجالات من أبناء هذه الأمة العظيمة مازالوا يؤمنون بلغتنا وثقافتنا وإسهاماتنا الحضارية في الثقافة الكونية في ماضيها التليد وحاضرها السعيد رغم إكراهات السياسة التي -بكل أسف- تظل تفرق أبناء الأمة الواحدة ولو صدقت عزائمهم في الوحدة والتضامن لحققت هذه الأمة المعجزات التي حققتها في الماضي. وتظل دائما قادرة بإمكاناتها وزخمها الحضاري على تحقيقها. «ألم يقل القديم إن عز الأمم بعز لغاتها». من واجبنا إذن أن نقول شكرا لدولة قطر على إرادتها السياسية وشكرا للمركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية ومديره العام ومؤسسة المعجم تحديدا وكل العلماء العرب وغير العرب وأنا أقول إن تونس بخبرتها وعلمائها كانت مسهمة في هذا الإنجاز التاريخي من خلال رجالاتها البارزين أمثال «د. عبد السلام المسدي» و»د. إبراهيم بن مراد» و»د. محمد الشيباني» وغيرهم ونسأل الله أن يوفق الجميع في إتمام المراحل الأربع المتبقية في المعجم. وتمتد كل مرحلة ثلاثة قرون. ونقول في الأخير إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يعد نقلة نوعية في خدمة اللغة العربية. وهو سند أمين لحماية هذه اللغة العظيمة وتعزيز الهوية العربية الإسلامية عبر لغتها التي تمثل عنوان وجودها ورمز كيانها. وندعو من هذا المنبر كل الأكاديميين والباحثين العرب والمبدعين في اللغة العربية والغيورين عليها في وسائل الإعلام ومؤسسات العمل العربي المشترك الى الوقوف إلى جانب هذا الإنجاز احتظانا له وتعريفا به وإسهاما للمقترحات والإضافة من أجل أن تظل لغتنا وهويتنا وخيمة وجودنا. وكل عام ولغتنا العربية بخير.