على الرغم من دقّة الظرف وصعوبته، لا ينفكّ المشهد السياسي الوطني متلبّسا بدرجة عالية من الغموض نتيجة ما يعيشهُ من حراكٍ سلبي وتفاعل متشنّج وردود فعل متوتّرة عنوانها الأبرز المناورات واطلاق الحيل ومواصلة الرهان على حروب التموقع وصراعات النفوذ داخل أجهزة الدولة وخارجها وتصفية الحسابات واستمراريّة سياسة الكواليس والغُرف المغلقة. لا شيء يدعمُ الآن توجّه المشهد الى حالة من التفاهم والانسجام والتوافق بين مختلف مكوّناته الحزبيّة والسياسيّة، والسبب الرئيسي هو واقع المداهنة والتعمية والتخفّي ومواصلة التعويل على وضع الألغام وتوظيف الأحداث الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتشويش على عمل أجهزة الدولة والتشكيك في أعمالها ومحاولة إرباك سير المرافق العموميّة وأخطرها الأمن والقضاء، بشكل يُحدث الكثير من الالتباسات حول حقيقة ما يُريده السياسيّون والأحزاب من خطاباتهم المشفّرة، بما فيها من رسائل خفيّة في هذا الاتجاه أو ذاك، ولقاءاتهم المعلنة والسريّة، المتبوعة بسيل من التسريبات وعمليات التوجيه. واقع الحياة السياسيّة، يشي بطغيان ممارسات هجينة أساسها التحايل، أي صناعة المناورات وإعمال الحيل وفبركتها، دون حدّ وبنسق متصاعد. فالجميع يبحث عن التحايل ومحاولة توريط خصمه أو حشره في الزاوية او الاطاحة به، بعيدا عن المنطق والموضوعيّة وتجاهلا لحقائق الواقع ومعطياته، وباعتماد المغالطات والأكاذيب ودون امتلاك الجرأة لكشف ما رسمه من أهداف أو حقيقة ما يرغبُ في بلوغه. منهج الحيل أو التحايُل الذي انغمست فيه جلّ النخب، لا يبدو منهجا مُوصلا الى معالجات فعليّة لما تعرفه البلاد من أزمات. فقد أوجد وضعا ملغوما وهو، في حال تواصل الاعتماد عليه، دافعٌ الى انتظارات سيّئة بما سيعكسهُ حتما من انخفاض متواصل لمنسوب الثقة بين مختلف الفاعلين السياسيّين والأطراف الكبرى وازدياد مظاهر التشنّج والاضطراب والشحن المتبادل وتغييب للرؤى التوافقيّة القادرة على تحقيق قدر من التفاهمات الواضحة التي يُمكن على ضوئها التكهّن بما قد تؤول اليه الأوضاع خلال الأشهر القادمة. جميع المنخرطين في العمليّة السياسيّة حاليا، لهم القدرة على المناورة. ولكن لا أحد منهم أذكى من الآخر. ولا أحد منهم أيضا أقلّ شجاعة وجرأة من الطرف المقابل، وإلاّ ما كانت المناكفات والتجاذبات والمحاذير والمخاوف المتبادلة لتتواصل، ولوُجدت حلول لكلّ الأزمات وما كانت المؤشرات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها تواصل السير الى المزيد من السلبيّة ومظاهر الانهيار. قالها القدماء، إنّ الحيلة في ترك الحيل، وهذا يعني الذهاب رأسا إلى المكاشفة الصريحة وإعلان النوايا الحقيقيّة وطرح الأجندات المخفيّة بجرأة وشجاعة وروح عالية من المسؤوليّة الوطنية تجاه الدولة والشعب. «تركُ الحيل» أسلم دونما شكّ، ودونه سيتواصل حبلُ الحيل في الانسلال والتوالد، واحدة بواحدة، الى ما لا نهاية ربّما، وهذا فيه الشيء الكثير من المخاطر والمخاوف.