الضجيج السياسي الذي تحدّث عنه رئيس الحكومة مؤكدا أنّه أحد عوامل تعطيل مسارات الإصلاح والإنقاذ، لا بدّ له من آذان صاغية تستوعبُ أسبابه وتعملُ على إيجاد صيغ لمداواته ووقف انعكاساته السلبيّة، لا القفز عليه ومحاولة تجاهله. وربّما يكون من مسؤوليّة رئيس الحكومة حاليا وبشكل عاجل تخفيض جزء هام من منسوب هذا الضجيج السياسي المتصاعد من حواليه برفع الالتباس حول مجمل النقاط والمسائل التي تهم علاقته بحزبه وببقيّة مكوّنات السلطة والمشهد السياسي عموما. ففي ذلك إزاحة للكثير من الغموض. ويسدّ أبواب التحريض والتشكيك والمناورات وبثّ الإشاعات. ففي الوضع الراهن تتداخل المشاهد والصور بخصوص وضعيّة رئيس الحكومة ومجالات التحرّك والمناورة لديه بشكل يعسرُ معه فهم حقيقة ما يجري في القصبة وبينها وقرطاج وباردو ويضعُ العمل الحكومي برمّته موضع إرباك وتعطّل لن يزيد الأزمات الاّ تفاقُما. إنّ منطق الشعبويّة والتسويق الفوتوغرافي والشعاراتيّة ومحاولة اللعب على العواطف أو التعاطي مع المشكلات الماثلة بالتجاهل أو الاستخفاف أو الردود المشفّرة، منهج على غاية من الخطورة لأنّه يُكثّف ضبابيّة المشهد. ويُعسّرُ على الرأي العام المحلي والدولي فرصة القراءة الجيّدة لتضاريس الواقع واستشراف المآلات الممكنة. لا بدّ من امتلاك قدر كبير من الجرأة والشجاعة في مواجهة الأزمات والحرص على تفاعل جدّي معها بغاية حُسن إدارتها وإخراج البلاد ممّا بات شبحا مخيفا نتيجة لا فقط تعقُّد الشأن السياسي. بل نتيجة تراكم المؤشرات السلبيّة في الكثير من القطاعات وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية والمالية. تقعُ البلاد اليوم في منعرج على غاية من الأهميّة. ولا شيء يُمكن أن يبعدها عن المنزلقات والانحرافات الخطيرة غير التحلّي بالوضوح في طرح الأجندات والبرامج والمشاريع وخاصة تلك المتعلقة بالشأن العام وصيغ إدارة مؤسّسات الحكم والعلاقة في ما بينها وتجنيب الدولة مخاوف الارتباك ومظاهر الارتباك والضعف. ألا تُثير علاقة التوتّر بين رأسي السلطة التنفيذيّة المخاوف؟ ألا يُوجدُ التأخير الحاصل في تفعيل سياسة التوافق والحوار بين مختلف الأطراف الوطنية، وخاصة تلك المنضوية تحت خيمة وثيقة قرطاج، قدرا من الانزعاج والريبة والشك حيال تباعد المواقف والآراء والمقاربات ناهيك أنّ استحقاقات كبرى تنتظر البلاد خلال الأشهر القريبة وكامل السنة القادمة؟ للأسف، انغمست النخبة السياسيّة في سياق سلسلة من المناورات والتجاذبات والأجندات المتضاربة التي بدت تظهر وكأنّها دون نهاية. فالأزمة تلدُ أزمة أخرى والتعقيدات تزداد مع كلّ محطّة، والخوف في ذهاب الجميع الى خيار المُغالبة القصوى دون تراجع أو تنازلات متبادلة بما يُثيره من مخاوف أن تؤدي حروب كسر العظام، التي نعايش يوميا أطوارا مختلفة لها، الى مآلات سَيِّئَة قد تصل حدّ القطيعة والصدام، لا قدّر الله. رغم حالة الفرح والانتشاء التي يعيشها البعض ومراسم التعزية التي نُظمّت للمنهزمين في هذه المحطة، فلا شيء مطلقا يمنعُ من وقوع أزمات أخرى قد تكون أشدّ تعقيدا وأشدّ وقعا. ذلك أنّ الاستقواء بالسلطة ومحاولة تطويع صلاحيات منحها الدستور لإدارة الشأن العام لحساب طموحات شخصيّة أو فئويّة وقلب المعادلات السياسية والحزبيّة في منتصف الطريق، لا يُمكن أن يُشكِّل، استراتيجيا، فعلا سياسيا ناجعا قادرا على الاستمرار والديمومة. بل هو ارتهان للحظة الراهنة وتكتيكات مرحليّة ستُنتجُ حتما مزيدا من مظاهر التأزُّم والخيبة. في غياب الجديّة وروح المسؤوليّة الوطنية الكبرى لعلاج هذا الضجيج السياسي المُربك والمعطّل، ستبقى مظاهر التأزُّم موجودة. ولن تُفضي أي أزمة إلاّ الى أزمة أخرى.