من المفارقات أن نتحدث اليوم في وقت بنت فيه تونس أعمدتها الاقتصادية وصنعت قطاعات تنموية، وبنت الذكاء البشري عن تهديد للقطاعات العمومية التي مثلت ركائز بناء هذه الدولة بعد الاستقلال، رغم ما كانت تعاني منه البلاد من غياب مصادر التنمية. الواضح اليوم إذن أن مسألة الرهان على التعليم والصحة في القطاع العام هي اختيار سياسي بامتياز. فعندما راهن بورقيبة في الستينيات على توفير الحق في الصحة والتعليم بشكل شبه مجاني لكل التونسيين، كانت مصادر التنمية شحيحة بين فلاحة تقليدية وغياب الصناعة وقطاع الخدمات وشح الموارد. اليوم -رغم تحقيق الدولة الحديثة مصادر واضحة للتنمية- فإن السياسات الاقتصادية تبدو متمردة عن سياسات راهنت على كرامة التونسيين وحقوقهم في الصحة والتعليم. ورغم أن هذا الاقتصاد قد بناه من انتفعوا بتعليم عمومي عادل بين التونسيين وبمنظومة صحية عمومية تضمن التغطية الاجتماعية ونظمت الأسرة وراهنت على جسد التونسي وعقله في بناء المستقبل، إلا أن من حملوا المشعل في طريق يسير نحو التنكر والجحود في إعطاء الأجيال القادمة حقا انتفعوا به. ولعل الصراع اليوم هو صراع ليبرالي أو بين منظومات اقتصادية إحداها تدافع عن العدالة الاجتماعية والحفاظ على الوفاق والميثاق المجتمعي، والآخر يدافع عن حقوق الأغنياء وتغول القطاع الخاص ولغة المال التي تنتصر لمن يفلح في ملء الجيوب. لن نبالغ إذا ما قلنا إن الدفاع عن المنظومة العمومية هو دفاع عن الإنسانية هو حرب من أجل العدالة الاجتماعية وكرامة العيش والحياة، وانتصار حقوق المواطنة.