حدَّدَ لنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمارةً للفلاحِ والنجاةِ والسداد، يَقيسُ كلٌّ منَّا بها نفسَهُ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مِن حُسْنِ إسلامِ الْمَرْءِ تَركُهُ ما لا يَعْنِيهِ) رواه الترمذيُّ . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)، وذكَرَ البيهقيُّ في الشعب أنَّ من اللغو (أنْ يَتكلَّمَ الرَّجُلُ بما لا يَعنيهِ من أُمُورِ الناسِ). وعَن كعبِ بنِ عُجْرَةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال : (فقَدَ كعبا فسأَلَ عنهُ، فقالُوا: مَرِيضٌ، فخَرَجَ يَمشي حتى أتَاهُ، فلَمَّا دخَلَ عليهِ، قالَ: «أبْشِرْ يا كَعْبُ»، فقالت أُمُّهُ: هَنِيئا لَكَ الجنَّةُ يا كعبُ، فقالَ: «مَن هذهِ الْمُتآلِيَةُ على اللهِ؟» قالَ: هيَ أُمِّي يا رسولَ اللهِ، فقالَ: «وما يُدْرِيكِ يا أُمَّ كعبٍ، لعَلَّ كعبا قالَ ما لا يَعنيهِ، أو مَنَعَ ما لا يُغنيهُ) . إن الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (مِن حُسْنِ إسلامِ الْمَرْءِ تَركُهُ ما لا يَعنيهِ) يُعتَبرُ قاعدةً عظيمةً فيما يأتي المسلمُ ويذر، قال ابنُ رجبٍ: (هذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ تَرْكَ ما لا يَعني المرءَ من حُسنِ إسلامِهِ، فإذا تَرَكَ ما لا يَعنيهِ وفَعَلَ ما يَعنيهِ كُلَّهُ فقدْ كَمُلَ حُسنُ إسلامِهِ)، ، وقال ابنُ سعدي: (ومفهوم الحديث: أنَّ مَن لم يترك ما لا يعنيه فإنه مسيءٌ في إسلامه) ، وقال ابنُ العربي: (إنَّ مِن قُبْحِ إسلامِ المرءِ أخْذَهُ ما لا يَعنيهِ، لأنَّهُ ضَيَاعٌ للوَقْتِ النفيسِ الذي لا يُمكنُ تَعويضُ فائتهِ فيما لَم يُخلَقْ لأجلهِ) . وقال معروفٌ الكرخي رحمه الله: (علامةُ مقتِ الله عزَّ وجلَّ العبدَ أن تراهُ مُشتغلا بما لا يَعنيه من أمرِ نفسه). إنَّ مَن أَحسَنَ إسلامَهُ فإنه يتبوأُ رفيعَ المنازلِ، وعظيمَ الفضائلِ، ومنها: أولا: مضاعفةُ حسناته إلى سبعمائة ضعفٍ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسَنَ أحدُكُم إسلامَهُ، فكُلُّ حَسَنَةٍ يَعمَلُها تُكتبُ بعشرِ أمثالِها إلى سَبْعِ مائةِ ضِعْفٍ، وكُلُّ سَيِّئةٍ يَعمَلُها تُكتَبُ بمثلِها) رواه البخاري ومسلم. ثانيا: الإثابةُ على الحسنات التي فعَلَها قبل الإسلام: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أَسلَمَ العبدُ فحَسُنَ إسلامُهُ، يُكفِّرُ اللهُ عنهُ كُلَّ سيِّئةٍ كان زَلَفَها، وكان بعدَ ذلكَ القِصاصُ: الحسَنَةُ بعشرِ أمثالِها إلى سَبعِ مائةِ ضِعفٍ، والسيِّئةُ بمثلِها إلا أنْ يَتجاوَزَ اللهُ عنها) رواه البخاري. ثالثا: التجاوزُ عن سيئات ما قبل إسلام المرء: عن ابنِ مسعُودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: (قالَ رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أَنُؤاخذُ بما عَمِلنا في الجاهليَّةِ؟ قال: «مَن أحسَنَ في الإسلامِ لَم يُؤَاخَذْ بما عمِلَ في الجاهليةِ، ومَن أساءَ في الإسلامِ أُخِذَ بالأوَّلِ والآخِرِ») رواه البخاري ومسلم. رابعا: تبديلُ السيئاتِ التي عَمِلَها حسنات: قال الله تعالى: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، وعن أبي طَوِيلٍ شَطْبٍ المَمْدُودِ رضي الله عنه أنهُ أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: (أَرَأَيتَ رجُلا عَمِلَ الذنوبَ كُلَّها، فلم يَتْرُكْ منها شيئا، وهوَ في ذلك لَم يَترُكْ حاجَّةً ولا داجَّةً إلا أتَاها - أي كان يقطع طريق الْحُجَّاج في ذهابهم ورجوعهم - فهلْ لهُ من توبةٍ؟ قالَ: فهل أسلَمْتَ؟ قالَ: أمَّا أنا فأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنكَ رسولُ اللهِ، قالَ: نعم, تَفعَلُ الخيراتِ، وتَتْرُكُ السيِئاتِ، فيَجعَلُهُنَّ اللهُ لكَ خيراتٍ كُلَّهُنَّ, قال: وغَدَرَاتي وفَجَرَاتي؟ قالَ: نعم، قالَ: اللهُ أكبَرُ، فمَا زالَ يُكبِّرُ حتى تَوَارى) . إن الضابطَ لمعرفةِ ما يعين المسلم وما لا يَعنيه هو الكتابُ والسنة، فإذا حَسُنَ إسلامُ المرء اقْتَضَى تَرْكَ ما لا يَعنيه من المحرَّماتِ والمُشتَبهاتِ والمكرُوهاتِ، وأيضا فُضُول المباحاتِ التي لا يحتاجُ إليها، فإنَّ هذا كُلَّهُ لا يَعنيه إذا كَمُلَ إسلامُه وبَلَغ إلى دَرَجَةِ الإحسانِ، وهوَ أنْ يعْبُدَ اللهَ تعالى كأنَّه ترَاهُ، فإن لَم بكُن يراهُ فإنَّ اللهَ يَراه، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (استَحْيُوا منَ اللهِ حقَّ الحَياءِ: قُلنا: يا رسولَ اللهِ إنَّا نَستَحيي والحمدُ للهِ، قالَ: ليسَ ذاكَ، ولكنَّ الاستحياءَ منَ اللهِ حَقَّ الحَياءِ أنْ تحفَظَ الرأسَ وما وَعَى، والبَطْنَ وما حَوَى، ولْتَذْكُرِ الموتَ والبِلَى، ومَن أرَادَ الآخرةَ تَرَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَنْ فعَلَ ذلكَ فقد استَحْيا منَ اللهِ حقَّ الحيَاءِ) . الخطبة الثانية ذكَرَ علماء المسلمين أربعة اسباب لتحصين النفس الزكية تساعد على حفظها وحمايتها من الزلل . اولها عض النظر ، فلا غنى للمسلم عن البصر لكن المتأمِّل في واقعنا يرى مدى التجاوز بهذه النعمة العظيمة إلى ما لا يعني، من التوسع في النظر المركَّز إلى المباحات من بيوت الناس وسياراتهم وأسواقهم.. إلى أن يصل الأمر إلى النظر إلى المكروهات، حتى يصل إلى النظر في المحرَّمات. ثانيا: الخواطر والأفكار: فأنفعُ الخواطر ما كان لله والدار الآخرة، كأن نفكِّر في معاني آيات القرآن الكريم وفهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونفكِّر في آيات الكون المشهودة والاستدلال بها على أسماء الله وصفاته وحكمته، ونفكِّر في آلائه وإحسانه وإنعامه، ونفكِّر في عيوب النفس وآفاتها . ثالثا: اللسان: قال عمر بن عبد العزيز: (مَن عدَّ كلامَهُ من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يَعنيه)، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (وهلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وُجُوهِهِم أو على مَناخِرِهِم إلا حَصَائِدُ ألسِنَتِهِم). رابعا: الحركات والخطوات: قال ابن القيم: (وأمَّا الخُطُواتُ: فحِفْظُها بأنْ لا يَنقِلَ قدَمَهُ إلا فيما يَرْجُو ثوَابَهُ، فإنْ لم يَكُن في خُطَاهُ مَزِيدُ ثوابٍ، فالقُعُودُ عنها خيرٌ لهُ، ويُمكِنُهُ أن يَستخرجَ من كُلِّ مُباحٍ يَخطُو إليهِ قُربَةً يَنوِيها للهِ، فتَقَعُ خُطَاهُ قُرْبَةً) ، وهكذا سائر حركات الجوارح وأعمال البدن.