أتصفّح جريدتين أو ثلاثا من يوميّاتنا المقروءة بحثا عن مادّة إعلاميّة مفيدة كمقال طريف في موضوعه، متميّز بأسلوبه، فلا أجد غالبا غير نسخ طبق الأصل أوتكاد تكون، ربّما لتقارب المشاغل ووحدة المصادر وإكراهات السبق وتسارع الأحداث زيادة على شراكة التكوين، دون اعتبار تشابه الأخطاء اللغويّة. ولا ألوم في كلّ هذا أحدا بما أنّ الأزمة شاملة لكلّ شيء، من السياسة والاقتصاد إلى الثقافة أدبا وفكرا وفنّا ولغة فإلى المقاييس والقيم والرؤية. وأقرأ بالخصوص لهذه الأقلام. فأجدها كلّها متشابهة شكلا ومضمونا، مواكبة جميعا للشأن العام. كأنّ أصحابها يتصوّرون أنفسهم رؤساء تحرير يكتبون الافتتاحيّة اليوميّة، بنفس اللغة، تلك اللغة الخشبيّة المتداولة بين الناس كافّة من دون طعم مميّز. وكأنّهم يجهلون قولة هنري بافون الشهيرة: « الأسلوب هوالرجل «. وقولة الجاحظ وغيره، من قبل، بمعنى أنّ الأفكار مطروحة في الطريق للجميع. وكلّ واحد يعبّر عنها بطريقته. فتتفاوت كتاباتهم بقدر البلاغة من الدرجة الصفر من التعبير إلى أرقى درجات الفنّ الخالد، العابر للأقطار والأزمان، مترجما أومتشكّلا في فنون أخرى. وفي هذا السياق قرأنا، في ذلك الزمن الجميل الذي تولّى، روائع المقالات في الأهرام وأبولو والرسالة والهلال وغيرها من الصحف والمجلاّت المصريّة الشهيرة، لطه حسين وحسن أحمد الزيّات وتوفيق الحكيم وعبّاس محمود العقّاد وأمثالهم من أقطاب الثقافة العربيّة في مصر، على سبيل المثال. وقرأنا لأندادهم في تونس أيّام كانت المقاهي تعجّ بقرّاء الصحف الأدبيّة والنقديّة والهزليّة المؤجّجة لمجالس المبدعين كجماعة مقهى تحت السور بباب السويقة ومجموعة مقهى البانكة العريانة بباب المنارة، إمّا حول علي الدوعاجي وإمّا حول محمد العربي الكبادي. وأطروحة المرحوم جعفر ماجد وكتاب المرحوم حمادي الساحلي وبحوث محمد حمدان مراجع لتلك الصحافة وروّادها كالنديم والفرززّو والندوة والزهرة والثريّا والمباحث والتجديد. فماذا أصابنا اليوم، بكلّ أسف وحسرة ؟ أهي السرعة والسطحيّة وأزمة الذوق أم هي المادّة التي أفسدت الأشياء فحوّلتها إلى أكلة واحدة بلا ملح فرضها الطبيب ؟ أنا الآن، وقد كنت مغرما بالمطالعة، لا أجد ما أقرأ رغم كثرة العناوين وتنوّع الحوامل. وبأكثر دقّة أعترف متألّما بأنّي لم أعد أجد ما يمتع ويفيد. بل أجد ما يقلق ويزعج مع تدنّي اللغة، التي قضيت أوفر العمر في تدريسها كالمدافع عن آخر قلاعنا، حتّى أصبحت أخشى أن تصيبني العدوى اللحنيّة. فماذا يصلح من هذا الكلام الكثير ليجمع موثّقا في كتاب أسوة ب « حديث الأربعاء « كمثال ؟ أمنيتي أن تتنوّع تلك الأقلام. فيكون منها الأديب الذي يحبّر المقالة الأدبيّة، والناقد الذي يحلّل القصّة والرواية والقصيدة، والمؤرّخ الذي يكشف عن الأسرار بما يعرّف بالماضي وينير الحاضر، وعالم الاجتماع الذي يدرس الظواهر لنفهم أنفسنا ونستعدّ لمستقبلنا، والخبير الاقتصادي ليخرجنا من مأزقنا إذا وجد المسؤول السياسي المستمع الى الرأي والرأي الآخر، عسى أن نبدأ في الطريق الصحيح بعد أن هدمنا جلّ المكاسب وعلى رأسها الوطنيّة وحدة وروحا. ودعاؤنا أنّ» الله يقدّر الخير « كما نقول صباحا مساء وأيّام العطل متخوّفين من مفاجآت أيّام الأحد.