كنّا في المكان، ظهر امس، حين سنحت فرصة قفزهما الى داخل أسوار الميناء. طفلان لم يتجاوز معدل عمريهما 15 سنة. تفاديا في مرة أولى عدسة التصوير ثمّ عادا بأكثر حماسة وتسلقا السور الحديدي للميناء ونجحا في اجتيازه. وانتهى المشهد بابتسامة عريضة وتحية ألقياها إلينا من بعيد. تونس الشروق: هذا المشهد، مشهد تسلق راغبين في الهجرة غير النظامية من كل الاعمار، بات مألوفا في المكان. سور حديدي يرتفع بحوالي مترين تكشف اعمدته عن عربات محجوزة وعربات أخرى لنقل السلع والبضائع. يقع هذا السور على مشارف المدخل الرئيسي لمنطقة حلق الوادي والكرم وعلى حاشيته تتكسر كل مخاوف الراغبين في مغادرة البلاد بشكل غير نظامي. وكانت وزارة الداخلية وديوان البحرية قد نفيا مؤخرا خبر "اقتحام" مهاجرين غير نظاميين لهذا السور بهدف الإبحار بالقوة عبر البواخر الراسية في المكان. اخبار متضاربة زادت من حدة الغموض الذي رافق العملية. ففي الوقت الذي نفى فيه الطرفان "اقتحام" الميناء اكدت الداخلية إيقاف أكثر من 100 شخص في محيط الميناء فما الذي حدث بالضبط؟ وماذا تخفي هذه العملية الغامضة؟ أسئلة لا تبدو الإجابة عنها سهلة فمشهد تواجد مهاجرين غير نظاميين في محيط الميناء بات معتادا للعاملين في المكان ولاهالي حلق الوادي لكن تجمهرهم بالعشرات ومحاولة اجتيازهم لسور المكان للتسلل للسفن في ليلة واحدة امر يثير الاستغراب خاصة بعد تاكيدات وزارة الداخلية القاء القبض على 100 شخص. هذا التضارب في الاخبار بين "إقتحام" و"تسلل معتاد" لدى الأجهزة الأمنية نفسها يطرح بلا شكّ التساؤل حول وجود شبكة لتهريب البشر باتت تعربد في ميناء حلق الوادي وبالتالي أصبح ميناء حلق الوادي مسرحا للجريمة المنظمة ولا نعلم إن كانت هذه الشبكة هي مجرد شبكات وسطى محلية أي تونسية الفكرة والتنفيذ ام هي شبكات دولية كبرى تتاجر بالبشر خاصة وان هذه الشبكات الدولية سبق وان وطأت اقدامها الساحل الجنوبي الشرقي لتونس منذ أواسط العام 2004. كما لا نعلم إن كان نشاط هذه الشبكة متوقفا على تهريب البشر من خلال تهريب المهاجرين غير النظاميين ام ان نشاطها يشمل أيضا تهريب ممنوعات كالأسلحة والمخدرات. تواطؤ سنفعل كما نصحنا اوائلنا "سنتبع السارق الى باب الدار". تقول المصادر الأمنية، فيما تم نشره من تقارير إعلامية، إنّ الامن احبط محاولة "اقتحام" 200 شخص لميناء حلق الوادي وانه نجح في إيقاف اكثر من 100 شخص. وتقول الرواية الأمنية الرسمية إنّ هؤلاء هم حصيلة عمل امني روتيني خلال يومي السبت والأحد لتامين الميناء وقد تم احباط عملية تسلل ل100 شخص من بينهم 30 قاصرا. ونفت ان تكون العملية في شكل "اقتحام". علما وان أهالي حلق الوادي والعاملين في الميناء يعلمون جيدا ان المهاجرين غير النظاميين الراغبين في التسلل عبر سور الميناء يتواجدون كل خميس وسبت في محيط الميناء باعتبار وجود رحلتين قارتين أسبوعيا وان عدد هؤلاء لا يتجاوز بضعة انفار ولا يمكن باي حال من الأحوال ان يتواجد 200 شخص يحاولون التسلل لرحلة واحدة؟؟؟ بدوره اكد ديوان البحرية ان "محاولات التسلل للميناء تكاد تكون بمثابة الظاهرة اليومية لدى العديد من الشباب وحتى بعض الأطفال وانها لم تتخذ البتة شكلا منظما او عنيفا وتبقى من باب المحاولات للوصول الى السفن الراسية بالميناء". كما اكّد ديوان البحرية في توضيحه بان "الوصول الى الأرصفة والتسلل الى داخل السفن من شبه المستحيل باعتبار الحراسة المفروضة على هذا الفضاء من ناحية وتواجد أجهزة المراقبة الإلكترونية على متن السفن من ناحية ثانية". إذن من اين استمدّ هؤلاء المهاجرين غير النظاميين او كما نسمّيهم ب"الحرّاقة" كل تلك الشجاعة لاقتحام الميناء وهم الذين يجهلون هويّات السفن والمواد التي تحملها ويجهلون اتجاهاتها انطلاقا من تونس وبالتالي وجهتها عند حصول طارئ ما ويجهلون أيضا مداخل الميناء وطريق الوصول الى السفينة؟ من مدّ هؤلاء "الحراقة" بهذا الكمّ من المعطيات كي يجدوا الشجاعة للوصول الى الميناء ومحاولة التسلل الى سفنه؟ لنفترض ان هؤلاء القصّر والشباب أرادوا اقتحام الميناء بالقوة، وهو امر مستبعد باعتبار خصوصية عملية "الحرقة" عبر التسلل للبواخر وباعتبار هدف هؤلاء "الحرّاقة" وهو الصعود لتلك السفن بهدف السفر خارج تونس، من سهّل عليهم التخطيط لهذه العملية المعقدة؟ شبكة تهريب قبل أسابيع من ذياع هذا الخبر المفاجئ، محاولة "اقتحام" الميناء، سبق وان تذمّر سكان منطقة حلق الوادي من تزايد عمليات السرقة والسلب تحت التهديد بأسلحة بيضاء مشيرين الى ان المنطقة أصبحت مقصدا لعشرات الراغبين في الهجرة غير النظامية. ويعكس هذا التجمهر ل"الحرّاقة" في المنطقة بالضرورة وجود منظّم رحلات هجرة غير نظامية عبر ميناء حلق الوادي الذي هو من اكبر الموانئ في تونس. ترسو في هذا الميناء في الغالب البواخر المخصصة لنقل المسافرين فيما تنطلق الرحلات التجارية عبر رادس. ويشهد العاملون في ميناء رادسحلق الوادي ان ظاهرة التسلل عبر الميناء قديمة ولكنها زادت حدة منذ العام 2015. كما يشهد أهالي المنطقة بان مشهد تواجد "الحرّاقة" بات مألوفا لدى الجميع حيث يتواجد في محيط الميناء شبّان ومراهقون يحملون على ظهورهم حقائب سفر صغيرة ينتظرون متى تسنح الفرصة للتسلل الى داخل الميناء حيث أمل الرحيل والهجرة. هذا المشهد بات مألوفا أيضا لدى السلطات الأمنية نفسها لكن ما هو مثير في الخبر الصادر فجر الاحد 24 مارس هو كثافة عدد المحاولين للتسلل. الامر الذي يطرح اكثر من سؤال حول حقيقة وجود شبكة لتهريب البشر. وفي المحصلة لا تبدو عملية الإيقاف المكثّف لمشتبه بهم في محيط الميناء مجرّد عملية امنية روتينية فالعدد بدا اكبر بكثير من المعتاد كما سبق اعلان هذه العملية تذمرات لسكّان أهالي حلق الوادي من عدم الاستقرار الأمني في المنطقة وتزايد عمليات السرقة و"البراكاجات" ما يعني ان المنطقة أصبحت تحت نشاط مارقين عن القانون وهو ما يدعم فرضيّة تواجد شبكة لتهريب البشر في ميناء حلق الوادي علما وان ديوان البحرية ورغم قدم ظاهرة التسلل للميناء بهدف الهجرة غير النظامية لم يجر ولو تحقيقا واحدا بخصوص إمكانية تورّط احد العاملين في الميناء في هذه العملية. وتواجد مثل هذه الشبكة يفتح الباب على جميع التجاوزات بما في ذلك تهريب الممنوعات وتهريب البشر للاتجار فيهم. مهدي مبروك (وزير سابق وباحث في الهجرة غير النظامية) من غير المستبعد وجود شبكة تهريب في الميناء تونس الشروق: يقول الباحث في علم الاجتماع ووزير الثقافة الأسبق مهدي مبروك في كتابه "اشرعة وملح" الصادر في العام 2010 إنّ التسلل للسفن هو طريقة معتمدة من قبل المهاجرين النظاميين من الاحياء المجاورة للميناء وانّ العملية تتم خلسة عبر تسلل مجموعات صغيرة لا يتجاوز عددهم 5 عناصر. وهؤلاء في الغالب هم من الراغبين في الهجرة غير النظامية ولكنهم عاجزون عن توفير ثمنها فيتجهون للتسلل عبر السفن الراسية في الموانئ بالاستناد الى علاقات تواطؤ مع جميع المتدخلين في الميناء من سائقي الشاحنات المحملة للسلع الى العاملين في الأرصفة والشحن وغيرهم. هؤلاء يوفرون المعلومات الضرورية للمهاجر غير النظامي بهدف مساعدته على التسلل الى داخل السفن التجارية. وقال الباحث في تصريح ل"'الشروق" إنّ التسلل عبر البواخر هي طريقة يعتمدها راغبون في الهجرة غير النظامية تجمعهم علاقة ترابط وجوار مع من يشتغلون في الميناء وهم يستندون الى معارف دقيقة بخصوص أنواع البواخر الراسية وجنسياتها وحمولاتها فقد تحمل بعض السفن موادا قد تكون حارقة للمتسلل وكذلك معلومات دقيقة حول مداخل الميناء والسفن وتوقيت مغادرتها واتجاهاتها. وبالتالي، يقول مبروك، هي "سلسلة من التواطؤات الدقيقة مع جميع المتدخلين في العملية بدأ بسوّاق شاحنات نقل السلع وصولا الى العاملين في الميناء". وعن سؤالنا حول ما إن كانت العملية قد تعكس تواجد شبكة للاتجار بالبشر نجحت في التمركز في الميناء ومحيطه قال مبروك "من غير المستبعد وجودها باعتبار عدد الموقوفين والذين كانوا في السابق يتوافدون في شكل مجموعات صغيرة ثم إنّ قانون 2004، وانا لست مختصا في القانون ولكني استمعت الى قانونيين يقولون ذلك، ارتقى بالحرقة من جناية الى جريمة وينطبق عليها القانون خاصة وان تونس شهدت منذ أواسط العام 2004 دخول شبكات عابرة للقارات مختصة في تهريب البشر الى مناطق الجنوب الشرقي". وبخصوص عملية ميناء حلق الوادي ومن خلال جنسية الموقوفين، وهم تونسيون من مناطق مختلفة نذكر منها القيروان وسيدي بوزيد، قال مهدي مبروك قد يكون نشاط لشبكات وسطى محلية. كما قال إنّ ظاهرة "الحرقة" استنادا الى عملية حلق الوادي يبدو انها تطورت شكلا ومضمونا فهي كانت تقوم على مجموعات صغيرة تعتمد التخفي بغاية التسلل ولكن يبدو ان استضعاف الدولة كان له أيضا دورا في هذا التجمهر من اجل الهجرة غير النظامية وربما محاولة "الاقتحام". وهي عملية حدثت سابقا من قبل مهربين اقتحموا المعبر الحدودي ببن قردان من اجل السماح بتهريب بعض المواد.