يتواصل نسق الارتفاع المحموم في الاسعار وغلاء المعيشة، في ماراطون بلا هوادة. وهو ما عمق في «أزمة» التونسي مع قفته ونوعية معيشته. فالمنحى التصاعدي للفواتير لم يهدأ، ونسبة التضخم لم تتحذ هدنة، وهو ما يشكل دفعا متواصلا للطبقة الوسطى نحو هوة الفقر، طبقة يصفها الخبراء أنها «تلاشت» في أرض الواقع. تونس (الشروق) يبدو أن نسق تآكل الطبقة المتوسطة مرشح إلى التصعيد، حسب عدد من الخبراء في الاقتصاد الاجتماعي. وهذه الأرقام ستزداد مقارنة بما سبق و أشارت له دراسة المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية والتي تحدثت عن تراجع بحوالي 25 بالمائة في حجم الطبقة المتوسطة في تونس بين سنة 2010 و2015. وقد بينت الدراسة عن تراجع في نسبة الطبقة الوسطى في تونس من نسبة 70 % من مجموع السكان سنة 2010 إلى حدود 55 % سنة 2015، لتصل إلى حدود 50 بالمائة من النسيج الاجتماعي. ويتم استخدام جملة من الخصائص الأسرية على غرار مستوى التعليم لرب الأسرة ومهنته والمستوى المعيشي والعمر، والعدد الإجمالي لأفراد الأسرة وخصائص المسكن. وقد تراجعت نسب الشرائح التي كانت تشكل النواة الصلبة للطبقة الوسطى أي المستقلين في الصناعة والتجارة والخدمات والإدارات والمهن الحرة، حيث تمثل نسبة إطارات المهن الحرة 33.2% ونسبة الإطارات والمهن الحرة المتوسطة 36.3 بالمائة. وقد ارتفعت نسبة العاملين في القطاع الفلاحي من 28.4% سنة 2010 الى 35% سنة 2015 وهي مهن عادة ما تكون غير مهيكلة من حيث التأجير. هرولة نحو الفقر الواضح من خلال قراءات المؤشرات الاقتصادية أن الأسر التونسية قد انجرفت بشكل كبير نحو الاقتراض والتداين لحل إشكالياتها المالية مقابل تراجع في نسب الادخار. كما تمت ملاحظة أن هناك ارتفاعا في نسب عدم القدرة على الاستخلاص من التونسيين. وهو ما أشارت له أرقام المعهد الوطني للاستهلاك والبنك المركزي. وبلغت نسبة التداين للأسر التونسية خلال سنة 2017، مستوى 31 بالمائة مقارنة ب29.1 بالمائة، خلال سنة 2014، مع تطور لافت في نسبة القروض صعبة الاستخلاص أو في حالة نزاع والمسلمة للأسر والتي وصلت إلى مستوى 15.9 بالمائة. وأمام العجز في تسديد القروض وعدم القدرة حتى على الحصول عليها بعد الترفيع في نسب الفائدة المديرية من البنك المركزي، تراجع نسق إسناد القروض لفائدة الأسر التونسية بنسبة 48 بالمائة، حتى موفى سبتمبر 2018، وهو ما أدى إلى انجراف عدد من الأسر نحو التداين بطرق أخرى غير رسمية مثل اشتراء بعض الأسر لقطع بالتقسيط وبيعها بالحاضر للخروج من أزمات وملاحظة عودة "كارني الكريدي" الشهري عند العطار. ويرشح خبراء الاقتصاد الطبقة المتوسطة إلى مزيد من الانحدار لا سيما مع ارتفاع نسبة التضخم وارتفاع تكلفة الطاقة والمحروقات. وهو ما يرشح عدد الفقراء الذي تجاوز مليون و700 فقير إلى الارتفاع، مع مزيد من تعميق الفوارق ما بين الفئات الاجتماعية لا سيما وأن 60% من الاسر تجد نفسها مثقلة بالديون. علما وان 50 % من القروض موجهة الى الاستهلاك مقابل غياب للادخار العائلي. انعكاسات خطيرة الفوز بود الطبقة الوسطى هو رهان كبير للسياسيين ولعل هذا ما برز خلال مناقشة ميزانية سنة 2019 في البرلمان التونسي. لكن رغم هذا التصارع فالخبراء يشيرون تواصل تراجع وتآكل هذه الطبقة وضرب صمام الأمان للمجتمع ومحرك التنمية الاقتصادية. وحسب رئيس منظمة إرشاد المستهلك غير الحكومية لطفي الرياحي فإن "الطبقة الوسطى قد انتهت في تونس، حيث أصبحنا نعيش بين طبقة غنية وأخرى فقيرة". ولاحظ أن التونسي لم يعد قادرا على الإيفاء بمستلزماته بين كراء وسكن وحاجيات الأبناء الدراسية وتوفير مائدة صحية للعائلة. فتونس تعيش حالة اندثار أو "تلاشي" للطبقة المتوسطة بسبب الضغط المتواصل على المقدرة الشرائية وارتفاع تكلفة المحروقات والجباية والأداءات وفواتير الماء والكهرباء والغاز، وهو ما يترجم ببروز فقر غير معلن. كما تحدث الرياحي عن تغير في السلوك الغذائي للتونسي حيث تغير نظامه في الأكل، وهو ما دفع نحو تغير في سلوكياته ونوعية أطباقه الغذائية بسبب فقر قفته. فأغلب التونسيين اليوم لا يتناولون اللحوم الحمراء. كما تعتمد شريحة اجتماعية واسعة على البيض في والوجبات الغذائية. والملاحظة الأبرز هي تراجع نسبة توجه التونسيين إلى مراكز الترفيه وقضاء اوقات للترويح عن النفس، وغياب الترفيه عند طبقة واسعة. ومن النتائج الأخرى لتآكل الطبقة الوسطى حسب محدثنا، كثرة الأمراض وارتفاع منسوب الضغط النفسي و"الستراس" وتراجع مردودية العمل، وآفات اجتماعية، وهو ما سيفرز أيضا عزوفا عن الانتخابات وغياب الثقة في الطبقة السياسية. أكرم الباروني (منظمة الدفاع عن المستهلك) .. تراجع المرافق العمومية وغلاء المعيشة «أفقر» التونسيين نلاحظ انحدارا كبيرا في الطبقة الوسطى في بلادنا. والمؤشرات تلوح بمزيد من الانجراف نحو الفقر. وما كنا نعتبره طبقة وسطى تراهن عليها البلاد هي في الظاهر طبقة لها وظيفة وأجر متوسط، إلا أنه وفي الحقيقة نجدها طبقة يعاني أصحابها من السقوط في فخ المديونية، فمن له منزل وسيارة لن يبقى له مع بداية الشهر وبعد اقتطاع مصاريف المعيشة والأكل والفواتير غير 100 أو 200 دينار كأقصى حد... يجب أن نعي أن المواطن ليس مذنبا بانخراطه في القروض فالوضع الذي يعيشه هو المتسبب في عدم تفكيره في الادخار، وحله الوحيد لمواجهة الوضع هو الاقتراض. صورة ما يعيشه التونسي اليوم تتمثل في وجود نقل عمومي لا يفي بحاجات التونسي وهو مليء بالتأخير والاكتظاظ والسرقة والتحيل وهو ما يدفعه مجبرا نحو اقتناء السيارة الخاصة، فنقلنا العمومي هو نقل الدول المتخلفة. كما أنه مجبر على تلقي العلاج في القطاع الخاص وبمصاريف إضافية نتيجة تراجع الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية. وهو ما لاحظناه من خلال مختلف الحوادث التي حصلت في مستشفياتنا، ولا ننسى ما يشهده التعليم العمومي من إضرابات وإشكالات دفعت الاولياء إلى التفكير في تعليم أبنائهم في القطاع الخاص . في المقابل وفي البلدان الأجنبية نجد أن النظام العام يساهم في الحفاظ على الطبقة الوسطى من خلال نقل عمومي لائق ومنظومة صحية عمومية محترمة وتعليم عمومي جيد. من جهة ثانية نلاحظ ارتفاع حجم الفواتير وغلاء الأسعار والمعيشة وارتفاع سعر الخضر والغلال، كل هذه الظروف دفعت الجميع نحو التفكير في الهجرة فالأمن الغذائي غير متوفر والمستقبل غير مؤمن، ولا ننسى غياب الأمان الاجتماع. وهو أيضا ما جعلنا نلاحظ أن المجتمع التونسي أصبح منقسما بين طبقتين واحدة مرفهة وغنية والثانية تم تفقيرها أو فقيرة بالفعل، فالبارونات الذين ينتمون إلى طبقة تمثل 10 بالمائة من التونسيين تتحكم في الاقتصاد التونسي. الوضع الذي وصلنا إليه، هو تراكمات انجرت عن غياب استراتيجية تحمي المستهلك وتسعى لحماية قدرته الشرائية وحماية حقه في خدمات عمومية لائقة. د. حبيب تريعة (دكتور في علمي النفس والاجتماع) ... نعيش فقرا غير معلن ... وارتفاعا في الانحراف والتسول هل ما زلنا نتحدث عن طبقة متوسطة فاعلة في المجتمع اليوم ؟ نلاحظ تلاشيا للطبقة المتوسطة وقربها من الاندثار في تونس وهذا له عواقب جد وخيمة. اليوم لم تعد لدينا طبقة وسطى فهناك طبقة غنية لا تعرف مدى ثرائها بين سيارات فارهة وفيلات وطبقة تتصارع لمجاراة مصاريفها اليومية. وما نعيشه اليوم هو نتيجة للثورة التي لم تجلب ما هو إيجابي بل جملة من السلبيات. ويعود هذا إلى أن الطبقة السياسية المسيرة للدولة غير كفأة وهو ما سيجرنا نحو الأسوإ ونحو توسع الهوة بين الطبقات. الطبقة المتوسطة "ظاهرا" أصبحت فقيرة في الواقع، فهي "تقطر" أجرها. وغير قادرة على توفير متطلبات معيشتها الأساسية دون اقتراض وتداين. أما الطبقة الأخرى فهي في بذخ مطلق بسبب التهريب والتجارة في الموانع والربح السهل وهم يتشكلون أساسا من "صبيان" المنظومة السابقة، ومن تفرعوا منها. وهذا التغير يجر نحو إرساء مجتمع استهلاكي، يقوم على البحث عن الربح السهل دون احترام للمبادئ والأخلاق، وبأقل التكاليف وربما بالممنوعات والتكاليف. ما هي نتائج تآكل الطبقة الاجتماعية على المجتمع والمستقبل السياسي والانتخابي في تونس ؟ هذا التآكل أفرز ظواهر اجتماعية تبرز في المجتمعات الفقيرة، مثل كثرة التسول وارتفاع نسب الانحراف والجريمة وكثرة "البلطجة" والمخمورين والمتشردين. ويعود هذا التحول في النسيج الاجتماعي إلى غياب الإصلاحات الاقتصادية واهتمام التونسيين بما يهم التونسي ويدعم الطبقة المتوسطة التي تمثل نواة المجتمع. نكرر أن هذا التراجع يعود لطبقة سياسية ينقصها الوطنية مثل بورقيبة الذي خلق جيلا يدرس ويقرأ بعد أن كان المجتمع أمي وفي فقر مدقع. وما زاد الطين بلة هو انقسام النظام السياسي على ثلاثة. مجتمعنا لا توجد فيه اليوم طبقة وسطى وهو في حالة فقر غير معلن. وهو ما سيجر ازمات اقتصادية في الأسر في الاعياد والعودة المدرسية. إضافة الى ارتفاع في نسب المتاجرة السياسية بأوضاع الفقر والتهميش، وارتفاع معدلات الانانية والنتيجة ستكون وخيمة، على الانتخابات وسط غياب للوعي السياسي. وكل هذه التغيرات سيتؤدي أيضا إلى تراجع في الاخلاق وفي التعامل مع كثرة الأنانية والصراعات. وهذه الطبقة المفقرة ستنجرف وراء من "يشتريها" من الطبقة السياسية جزئيا. وهو ما يعمق في التجاذبات التي لا تخدم المصلحة التونسية ومنطق "أنا ومن بعدي الطوفان".