نستقبل اليوم شهرا اختلطت فيه المفاهيم والمقاصد.. شهر الصيام والعبادة وتجديد الإيمان.. شهر الكسل والنوم ..شهر التبذير وشهوات البطن والرغبة في الاحتكار وتجويع الجائعين أصلا ..، نستقبل هلال شهر، أفرغ من محتواه الإيماني ليتحول إلى عادة اجتماعية تقوم على سلوكات وممارسات خالية من فحوى العبادة وعمقها العقدي ..عادات اجتماعية اكتسبت مع الوقت صفات ملزمة يحتكم إليها الصائم ، ويُضيِّق بها الناس على أنفسهم.. عادات غريبة عن معاني الشهر ومقاصده ..عادات لا يمكن عدها وحصرها مادام المخيال الشعبي أبدع في تركيبتها وصنع تراكماتها فينسى البعض النية في الصيام ويستحضر النية في القيام ، لا القيام ليلا للصلاة والعبادة والتهجد، بل قيام النهار والليل للاحتكار والمضاربة وامتصاص دم أجساد فقدت دماءها بارتفاع تكلفة العيش وضعف المقدرة الشرائية .. مقدرة شرائية مهترئة لكنها نجحت بمفارقة عجيبة في تخطي الصعاب فأفرغت في اليومين الأخيرين المغازات والفضاءات التجارية من سلعها وحولت المنازل إلى مخازن لا تنقصها إلا فرق المراقبة لتسجيل محاضر اللهفة والخوف من الجوع المرتقب .. بداية من اليوم ينشط المحتكرون ويستفيق من كان يتهيأ منهم لشهر خير من الف شهر في المضاربة وترويج المجمد والفاسد والقديم لربح وفير على حساب الفقراء والمساكين الجائعين، والملهوفين على موائد فاخرة أكثر من نصفها يلقى طريقه خارج "سلات" البطن .. مع صباح اليوم ، تتعطل المصالح ويغيب الموظف ويستقبلك زميله بوجه مصفر ليكرر على مسامعك «ارجع غدوة» ..وتعود غدا فتجد صاحبك وقد ازداد اصفرارا واصرارا على انه صائم ومتى استقام مع الصيام عمل ؟. ولأنه شهر التسامح والتحابب ، يكثر من اليوم الخصام في الأسواق والطرقات والبيوت ويغيب لفظ " اللهم إني صائم " ليصبح اللهم "إني قائم" للعراك والسباب وفي قلبي خشوع " حشيشة رمضان " التي لا سلطان عليها .. .. ويحل موعد الإفطار ، فتتهيأ الموائد وتزدحم الأطباق ليبقى أغلبها ينتظر صائما قائما لوجه الله ، سرعان ما يغادر البيت لا لصلاة التراويح ، بل لأقرب مقهى لاحتساء كأس شاي أو قهوة سريعة لتعديل الأوتار أو للعب القمار.. .. يحل الإفطار وتعمر بيوت الله بالمصلين الخاشعين المتلهفين إلى شيخ وقور يلقي درسا قديما في "الماء الطاهر والطهور".. ويطلب من مريديه تجديد الإيمان الذي يبلى كما يبلى الثوب لكن درسه لا يبلى ولا يتجدد لأنه مواكب للعصر ومستحضر للمتغيرات التي ابتلعت مفاهيم شهر الصيام .. الصيام في معانيه السامية ليس الإحساس بالجوع وكبح شهوات البطن، وإلا لما عد الفقير صائما على مدار العام ونال ثواب الصائمين وهو مفطر، بل الصيام موعد متجدد مع الله ومدرسة روحية تقوم على الحرية بمفهومها الشامل ، الحرية من الشهوات التي شكلت عبر التاريخ مدخلا من مداخل الاستعباد ومنفذا من منافذ الأعداء والمضاربين والمستكرشين والانتهازيين وعشاق تجميع الأموال وتكديسها والسياسيين الذين سيوزعون " قفة رمضان " لاسترقاق فم جائع إلى حزب فاشل .. اللهم جدد الإيمان في نفوسنا وأصلح مفاهيمنا وتجاوز أخطاءنا في تغيير المقاصد السامية لشهر كتب علينا وعلى الذين من قبلنا فزغنا عنه وعنهم ..