«صفقة القرن» المتحدث عنها شرقا وغربا وفي جميع مناكب الأرض وبزخم إعلامي كبير، وكيف لا يقع الحديث عنها بإسهاب وهي أمريكية الصنع ومن هندسة دونالد ترامب عراب السياسة الدولية التي أصبحت مليئة بالتحديات وبالمفاجآت حتى أن الديمقراطيات المسكينة أصبحت تضع يدها على قلبها كلما سمعت بمشاريعه إن لم نقل بشطحاته خصوصا منها الدولية. فالرجل يركبه الغرور إلى حد أنفه ولا يعبأ بأحد المهم إشباع غروره. لقد قال فولتير Voltaire في يوم من الأيام» لا عدو أخطر من التعصب والغباء والحمق». أرى هذه الصفات مجتمعة لدى ساكن البيت الأبيض إلى أن يأتي ما يثبت خلاف ذلك. لكن أليس من باب الصفاقة وانعدام الكياسة تسمية مشروعه في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي بصفقة القرن وكأنه مشروع تجاري والتسمية في حد ذاتها تنم عن نرجسية وغرور، فضلا على كون الإنسانية في بدايات القرن الواحد والعشرين، أي أنه بمثل هذا الإدعاء تم الحكم على الثمانين سنة الباقية من القرن بالجمود والتكلس وانحسار الأفق وغياب الحلول حال كون العالم في تغير مستمر لا يقف ولا يني يبتدئ ولا ينتهي والتغيير يحصل من سنة إلى أخرى إن لم نقل من يوم إلى آخر. وبالتالي سوف لن تقف المشاريع السياسية الدولية والصفقات على حد تكييف ترامب. وسوف تعقد لا محالة بقوة الكينونة والسيرورة والديمومة صفقات أخرى أخطر على الإنسانية والخطورة هنا بمعنى الأهمية. إذ لا أتصور أن يدوم خمول العرب شعبا وساسة إلى نهاية هذا القرن بدلالة الحراك الشعبي المتواصل والمنذر بإرهاصات مستقبلية. كما أنه لن تبقى أمريكا كما هي الآن شرطي العالم. فحتما سوف يتراجع الغرب كله «déclin de l›occident» وهذا ما يقوله فقهاء السياسة الدولية. فالغول الصيني في سباق مع الزمن. وسوف يلتهم كل من يعترضه، مسألة وقت فقط... وصفقة القرن هذه سبقها قرار أرعن وأحادي الجانب «unilatéral». تمثل في إعلان القدس عاصمة إسرائيل والعمل على نقل السفارة إلى القدس. وحافظ ترامب على وعده رغم تهديد أردوغان وحفنة من العرب. وبقيت التهديدات من باب إسالة الريق إن لم تكن من باب الشعبوية والفانتازيا السياسية. وابتلع ساسة العرب ومن لف لفهم السكين مخضوبة بدم الهزيمة. هذا واعتبر بنيامين نتنياهو قرار نقل السفارة حدثا تاريخيا غاية في الأهمية وأنه ممتن جدا لترامب مهندس القرار وصديق الصهيونية. والصفقة المزعومة طبختها أمريكا مع زبانيتها في العالم سرا وعلانية في قدر ( cooking pot ) بمكونات وتوابل بعضها عربي والبعض الآخر صهيوني-أمريكي برغبة تكاد تكون وهمية مؤداها إنهاء النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وذلك بتوطين الفلسطينيين في أرض بديلة عن أرضهم. لكن تكون متاخمة لها لكي لا يحسوا بالاغتراب مع التكفل ببعض الصدقات من هنا وهناك لإخماد صوتهم بشكل نهائي خاصة أن دولة الاحتلال غير قابلة بحل الدولتين، و"الحق معها فهي صاحبة الأرض والفلسطينيون دخلاء". وكيف تقبل وهي الطامعة بالتوسع حسب مخطط جهنمي قديم بمقولة إسرائيل الكبرى التي طالما حلم بها بناة الكيان الصهيوني. وهنا تجدر الإشارة الى أنه لا يهم إن كان العرب فاعلين أصليين في الصفقة أم شركاء إذ أن القانون يعاقب الشريك بنفس عقاب الفاعل الأصلي والمقصود بالعقاب هنا لا يتعدى العقاب المعنوي-التاريخي. ولا أريد أن أذكر البلدان العربية المشاركة في هذه الطبخة لأن توضيح الواضحات من الفاضحات. وغاية هذه البلدان هي رضا العم سام وجني بعض المكاسب الآنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ولا مراء في أن إمضاء هذا الاتفاق يرتب حتما وصمة عار تاريخية على جبين الأمة العربية من المحيط إلى الخليج وعلى ساستها بدرجة أكبر لن يمحوها الزمن وإن طال ولن تغسلها أمطار الدنيا مهما تهاطلت. والغريب في الأمر، عفوا الطبيعي في الأمر، أن هناك دولا عربية تحاول بالنصح والإغراء كما بالضغط على الفلسطينيين وتحديدا على محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بضرورة القبول بالصفقة. وإنه يجب عليه أن يكون براغماتيا حتى لا يندم لاحقا. وإن الظرف الدولي مع القبول بالصفقة. وإن الحكمة تقتضي»خذ وفاوض». وهنا تعود بي الذاكرة بكامل الألم والحرقة إلى خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة بمناسبة مؤتمر أريحا في 3/ 3/ 1965 لما نصح الفلسطينيين بالمرحلية في المطالبة وأنه لا يجوز رفض قرار التقسيم الدولي آنذاك. وجوبه زمنها بالخيانة حال كون فكرته كانت مزعجة للكيان الصهيوني أيما إزعاج بشهادة قولدماير ذاتها. حيث قالت حينها بأن بورقيبة أخطر شخصية عربية على إسرائيل. ويظهر أن الرئيس محمود عباس رفض قبول الصفقة بمخرجاتها المهينة لشعبه، ضرورة أنه إذا قبلها سيتم اتهامه بالخيانة الكبرى. وقد طلب منه بالإضافة إلى ذلك العمل على تهيئة الرأي العام الفلسطيني من الناحية النفسية لتحاشي تهمة التخوين. الرئيس عباس عرج في أحد المجالس الثورية لحركة فتح عن إمكانية تنحيه عن رئاسة السلطة الفلسطينية ربما درءا لتبعات الصفقة إن وقع تمريرها عنوة. حقيقة، إذا تم تمرير هذه الصفقة وهي بمثابة اتفاق إذعاني «un accord d›adhésion» فإنه يقع وأد حق العودة وكذلك الحق في إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية بصفة نهائية لا رجعة فيها. وتصبح القضية الفلسطينية التي عاصرت الشعب العربي منذ 1948 في خبر كان. الطبخة تطبخ على نار هادئة. ومن المرجح أن يقع الإعلان عنها بعد شهر رمضان وعموم العرب في سبات عميق عدا بعض الكيانات العربية المشاركة في الطبخة. ولا أقول دولا، لأنها لا تمثل بالضرورة شعوبها. وهي متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الصفقة لإرضاء أطماع ذاتية من نسج الخيال. ولقد سئل وزير الخارجية الأردني عن هذه الصفقة في الصائفة المنقضية فأجاب» عندما يطرحها الأمريكان سنعطي رأينا حولها». نعم، العرب ينتظرون نضج المشروع وطرحه لمناقشته، أي مناقشة بعدية وليست قبلية!!! لكن وإحقاقا للحق فإن ملك الأردن كان صريحا في رفضه الصفقة « لا تنازل عن القدس، لا لوطن بديل، لا للتوطين». فهل يبقى الملك على عهده في زحمة الضغوط والاملاءات والمغريات؟ لا أدري، السياسة لا يستقر لها حال. فهي كالرمال المتحركة... وهنا لا تفوتني الإشارة عرضيا إلى أن أمريكا التي تستعمل سياسة الترغيب والترهيب، العصا والجزرة، وهذا ليس بغريب عنها، أخرجت لنا مؤخرا البعبع (le croque-mitaine) أبا بكر البغدادي، وهو صنيعتها، في تسجيل مصور لأول مرة منذ عام 2014 وتباشير الارتياح تظهر على محياه. وهذا ليس مجانيا. بل هو رسالة مشفرة من الشرطي دونالد ترامب إلى العالم العربي الإسلامي وخصيصا السعودية بأنه عليها أن تدفع أكثر وأكثر لحمايتها من المناوئين والطامعين زد على ذلك فإن ما يحدث متزامنا في الجزائر وليبيا والسودان ليس جزافيا أو عبثيا. فالرسالة واضحة، والعبرة ليست بالألفاظ والخطابات بل بالنوايا والمقاصد. والمهم أن لا يكون التأويل العربي خاطئا كما كان دوما...