اختلف الباحثون في مؤسّس دار الصّناعة بتونس، فمنهم من يجعله حسّان بن النّعمان، وهو الرّأي الأكثر انتشارا، ومنهم من يجعله موسى بن نُصير، ومنهم من يجعله عبيد الله بن الحبحاب. ولتلافي هذا التّضارب، لجأ أحد الباحثين إلى التّوفيق بين هذه الرّوايات المختلفة، ناسبا المبادرة الأولى في البناء إلى حسّان، ومواصلة ذلك إلى موسى بن نصير، ثمّ إعادته وإتمامه إلى عبيد الله بن الحبحاب. وهو رأي مقبول نظرا لضخامة هذه الأعمال الّتي فرضتها الغارة الّتي قام بها الرّوم «على من كان بقي من المسلمين بمدينة تونس». هؤلاء الّذين أبقاهم حسّان كمرابطين في «معسكر تونس». «ولم يكن لهم شيء يحصّنهم من عدوّهم». فبلغ ذلك الخليفةَ عبدَ الملك بن مروان، فأمر واليه على مصر عبد العزيز بن مروان بإرسال «ألف قبطي بأهله وولده»، إلى مدينة تونس حتّى يبني لهم دار صناعة، هذه المؤسّسة الّتي بُنيت تحت إشراف حسّان بن النّعمان بين سنة 80/699، تاريخ الحملة الثّانيّة على تونس، وسنة 85 /704، وهو الحدّ الأقصى لذلك، إذ يمثّل تاريخ وفاة عبد العزيز بن مروان منفّذ أوامر أخيه عبد الملك بن مروان. هل أنّ غارة الرّوم على مدينة تونس تكفي لتفسير إقامة دار الصّناعة ؟ هذا السّبب غير كافٍ في حدّ ذاته، إذ كان الرّوم أغاروا على برقة وسبوْا عددا من المسلمين، دون أن يؤدّي ذلك إلى إقامة منشآت مثل الّتي عرفتها مدينة تونس، بل ربّما مثّلت هذه الغارة على تونس عذرا لتنفيذ مخطّطات طالما سعى الفاتحون المسلمون إلى تحقيقها، وهي السّيطرة على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط، وذلك بالاستيلاء على جزر صقلّيّة وسردانيا... ولن يتمّ لهم ذلك إلّا بتقريب نقطة انطلاق أسطولهم الحربي من أرض العدوّ، عوضا عن خروج هذا الأسطول من سوريا أو مصر ويمثّل شمال إفريقيّة – وفي إطاره مدينة تونس – أقرب نقطة من النّاحيّة الجغرافيّة من هذه الجزر. وفي هذه الظّرفيّة العامّة، يجب وضع إقامة دار الصّناعة بمدينة تونس. لكن لماذا أُقيمت هذه المؤسّسة بمدينة تونس بالذّات، وليس بغيرها من المدن وبصفة أخصّ برادس ؟ هذه المدينة الّتي كانت «رباطا مشهورا بالفضل». بالمقارنة بين تونسورادس على مستوى الموضع وكذلك الموقع نستطيع أن نستخلص الجّواب عن هذا السّؤال. إن كان الموقع بالنّسبة إلى المدينتين موحَّدا، إذ أنّ كلتيهما توجدان على ضفّة مضيق صقلّيّة، وعلى منفذ أخصب منطقة بإفريقيّة وأرطبها، وهي التّلّ الغربي، فإنّ الموضع يختلف تماما بين المدينتين، إذ أنّ رادس تفتح بصفة مباشرة على البحر الأبيض المتوسّط، بينما توجد تونس في «جوْن خارج عن البحر»، أي أنّها لا تُشرف مباشرة على البحر، بل تفصل بينهما «البُحيرة»، وهي بحيرة تونس. وبذلك، فإنّ موضع رادس مكشوف، وبالتّالي سهل المنال بالنّسبة إلى البيزنطيين، بينما موضع مدينة تونس فهو محميّ طبيعيّا، إذ أنّه يمتدّ على الضّفّة الدّاخليّة من بحيرة تونس، هذه البحيرة الّتي تتّصل بالبحر عن طريق «فم الواد» أو حلق الود. ومن مدينة تونس انطلقت أوّل الحملات البحريّة الإسلاميّة بإفريقيّة ضدّ العالم المسيحي. يتبع