لو أن إنسانا داخله الشك في وحدة هذه الأمة ووحدة مصيرها فإن عليه أن يستعيد صورة الوطن الكبير في الخمسينات حتى يوقن بان الأساس الأقوى بين جماهيرها والفكر الأرسخ والأشمل بين طلائعها، هو إحساس الوحدة وفكر الوحدة. فعندما كان جمال عبد الناصر ينادي العرب من قلب القاهرة أن هبّوا لنحرّر وطننا ونتوحد، كان العرب جميعا يتحولون إلى رجل واحد وصوت واحد وهدف واحد من العراق حتى الجزائر. وفي منتصف الخمسينات وبعد مؤتمر باندونغ، اشتد تصاعد حركة التحرر العربيّة واتّسع لهيبها، وكانت المعركة تقترب من لحظاتها الحاسمة في مصر. أمريكا ترفض تسليح النظام الوطني في مصر بعد أن ثقلت وطأة حملته على حلف بغداد الاستعماري، ودالاس يسحب عرض تمويل السد العالي، والقاهرة تكشف عن خرقها لاحتكار السلاح بعقد صفقة التسلح الشهير لأول مرة مع المعسكر الاشتراكي. وعبد الناصر يدشّن نفسه بطلا قوميا بوقوفه في عيد الثورة المصرية عام 1956 ليفاجئ عالم الاستعمار القديم المتهاوي، بل ويفاجئ العالم كلّه بأنّ مصر المناضلة قد استردّت في تلك اللحظة قناة السويس. وبأنّ العرب قد اقتحموا التاريخ المعاصر من أوسع أبوابه بقدرة وجدارة. ولا أحد يمكنه أن يتصوّر عمق عاطفة الانتصار التي هزت وجدان العرب جميعا في كل أقطارهم. كما أنّ التاريخ قد سجّل في يوميّاته وفي مذكّراته كيف عاش قادة أوروبا وأمريكا أيّامها الرّعب من البطل العربي ناصر؟ و كيف كان ارتباك الدولتين الاستعماريتين القديمتين انقلترا وفرنسا، شاملا وشديدا. ولم تكن حملة السويس التي قادتها الدولتان الاستعماريتان ومعهما ربيبة الاستعمار وخادمته (إسرائيل) إلا عملا أحمق من قوى لفظها تطوّر التّاريخ وقادها إلى حتفها في السويس لتستخرج بنفسها شهادة وفاتها. وربما كانت ردة الفعل العربية – وفي صفوف العالم الثالث الوليد آنذاك – هي إحدى ايجابياتها، لو كان من الممكن أن تكون للحماقات الاستعمارية أحيانا بعض الإيجابيات بالنسبة للشعوب. لقد تحول المناخ العربي كله في تلك الأيام المجيدة إلى مناخ وطني وقومي حارّ وملتهب وبدا أن أكثر طموحات وأهداف شعبنا العربي في كل مكان جديرة بأن تتحقق ويمكن أن تتحقق بعد أن صارت الإمبراطوريات الاستعمارية بحق –وبحكم قوانين التاريخ نفسها – نمورا من ورق. في ذلك المناخ الوطني والقومي الحار والملتهب ولد صدام حسين السياسي المناضل. أيّامها كان طالبا في ثانوية الكرخ في بغداد. وإذا بأنباء العدوان الثلاثي على مصر تنقلها الإذاعات والصحف فتتحول بغداد كلها إلى شعلة من الحناجر الصارخة والأيادي المضمومة والأجساد المتراصة التي تواجه بعنف لا مثيل له جنود نظام نوري السعيد العميل والرجعي وتطالب بإسقاط حلف بغداد وإسقاط النظام الذي ينفذ مخططات الاستعمار وتأييد ومساندة مصر المناضلة. إن وعي المناضل الشاب كان قد بدأ يتبلور ومعالم طريقه أخذت تتحدد. وشيئا فشيئا بخطى واثقة ويقينية راح يقترب من المسرح الذي ينتظره والذي سوف يلعب عليه الدور التاريخي الذي هو دوره. في تلك الأجواء البهيجة، غلت في دماء الشاب صدام حسين دماء العروبة، وربّما كان العدوان الثلاثي على مصر هو الحلقة الثانية في وعي الشاب، بعد أن سمع وهو لا يزال في سنّ الحادية عشرة من عمره، عن نكبة فلسطين، وعن أخبار دير ياسين وعصابات «الهاغانا» و ما فعلته في أصحاب الأرض. لقد كان القدر يدفعه دفعا، إلى تبنّي العروبة منهجا في حياته وفي فكره. و لم يكن من الصدفة أن تكون آخر كلماته وهو على منصّة الإعدام، يقاوم جلاّديه من الصفويين و الصهاينة، أن تحيى العروبة و تحيى فلسطين. يتبع