من شهر ديسمبر 1956 الى شهر ديسمبر 2009 تكون قد مرّت 53 سنة. ففي هذا الشهر وفي يوم 23 ديسمبر 1956 تم رحيل آخر جندي انقليزي من الذين ساهموا في الاعتداء الثلاثي على مصر. اعتداء بدأته اسرائيل يوم 31 أكتوبر 1956. احتلت الدبابات الاسرائيلية سيناء للمرة الاولى تبعتها الغارات الجوية البريطانية والفرنسية. لذا فيوم 23 ديسمبر لن يكون يوما كغيره فهو يمثل ذكرى تثلج صدر كل عربي آمن بأن الارادة تكون أحيانا أقوى من السلاح (كانت مصر حديثة العهد بالاستقلال والتسلح وكانت فرنسا وبريطانيا واسرائيل) ترسانة متنقلة من الذخيرة والسلاح ومع ذلك تمت المواجهة وبدأت المقاومة الشعبية التي أذهلت العالم بجهودها وتمسكها بالأرض ومساندة النظام الذي اختار السيادة منهجا وطريقا فلم يتزعزع ولا حاول الاستسلام رغم ضراوة العدوان. أول هدف للعدوان الثلاثي لم يكن مجرد محاولة لاستعادة القناة بل الدافع الاول كان محاولة كسر عزيمة النظام وادخال البلبلة في صفوف الشعب فيدفعه الرعب للانقلاب على هذا النظام الذي يمثله البكباشي الشاب جمال عبد الناصر. ربما انتصر الشعب في ما فشلت فيه جميع الانظمة الغربية والعربية، إلتف الشعب حول قائده وسطع نجم عبد الناصر ليصبح بطل العروبة المنتظر ورجل القرن العشرين. يوم 26 جويلية 1956 وفي زحمة أفراح الثورة وقف الزعيم جمال عبد الناصر في ساحة المنشية بالاسكندرية ليعلن عن تأميم قناة السويس كشركة بحرية مصرية. قال ذلك بكل ثقة وشموخ وقف ناصر في ساحة المنشية ليعلن على الملإ تأميم قناة السويس الكل كان يشعر بأن الخطاب يخفي مفاجأة لكن لا أحد تصوّر أن المفاجأة ستكون بذاك الحجم فقناة السويس كما يعلم الجميع أصبحت دولة داخل دولة ولا أحد يستطيع أن يتحدى الطوق الحديدي الذي كانت بريطانيا وفرنسا تمسكان به لكن الصاعقة نزلت اهتز (جي موليه) في فرنسا وكاد (إيدن) يجن في دوائر ستريت. أذهلت المفاجأة العالم كله غير الشعب المصري فقد كان ينتظر المزيد من التحدي من قائده من أجل سيادة مصر وكرامة شعب مصر. عاش ناصر طوال حياته يفكر في شعبه محاربا من أجل العرب والعروبة. لم يفكر يوما في نفسه أو مصلحته كانت حياته كلّها ملك العرب والعروبة. ساند الجزائر كما ساند جميع الدول الافريقية الحالمة بالاستقلال. لكن حركة التأميم أكانت رغبة في استرداد حق ضائع منذ أكثر من مائة سنة أم هو التحدي المريع لأمريكا التي تراجعت عن وعدها برفضها تمويل مشروع بناء السد العالي أم هو بكل بساطة صفقة للبنك الدولي الذي رفض الطلب المقدم من مصر من أجل بناء السد العالي. كانت دوافع الرفض واضحة تعجيز مصر ودفعها رغما للخضوع لشروط الدول الكبرى أمريكا بريطانيا وفرنسا. رد غير منتظر من شعب مازال يبحث عن نفسه تحت انقاض الاستعمار والملكية العابثة.وقد وصل الملك والبلد على شفة الهاوية لكن ناصر رجل المهام الصعبة عرف كيف يدفع بقاربه وينجو من الغرق رغم الأحلاف والمؤامرات. كان يؤمن أن الحق لا يعود الا بالتضحية لا بالخضوع وقد ضحى الشعب المصري بالكثير من أجل القناة. فقد مات 120 ألف شاب مصري أثناء عملية حفر القناة. سالت الدماء المصرية قبل ان تسيل المياه في القناة. حقا كانت قناة السويس أعظم انجاز. قام به المهندس (فردنان دي ليسبس) غنيمة دسمة للغرب وموت عاجل للشباب المصري الذي ظلل بأن قيل له أنه ذاهب للعمل في السخرة . وقد عاد القليل ومات الكثير دون أن يعرفوا لماذا ذهبوا ولا لماذا مات منهم الكثير. اختلطت دموع الثكالى بأصداء موسيقى الافتتاح الذي كان فخما وكان به كضيوف جل مشاهير العالم، حتى الملكة (أو جني) زوجة امبراطور فرنسا نابليون. من أجل الافتتاح بنيت دار الأوبرا المصرية الاولى التي احترقت في أوائل السبعينات وبقيت أسباب الحريق غامضة وإن كانت الاغلبية عليمة بالسبب الحقيقي لهذا الحريق، بعد اعلان قرار التأميم وفشل لجنة (منزيس) الآتية للتفاوض لم يبق أمام بريطانيا وفرنسا غير الحرب. إعتقد البلدان أنها ستكون عملية ردع للنظام الثائر: الخضوع او الموت. وكعادة صلاح سالم (أحد الضباط الاحرار) واندفاعه الأهوج دفع به الذعر فطلب من ناصر الاستقالة وتسليم نفسه للسفارة البريطانية. رد عليه ناصر بكل هدوء وثقة: أنا أتحمل المسؤولية وحدي وليس من حق أحد محاسبتي غير شعبي. معركة غير متكافئة لكن المقاومة الشعبية وبسالتها في الصمود أكبر صفعة للاستعمار، انتصر أبطال بورسعيد والسويس على أخطر الدول الاستعمارية. لم يكن (ديفيد بن غريون) طرفا في النزاع ولا في ملكية القناة فلماذا جعل نفسه طرفا في الاعتداء. تم الانسحاب من سيناء كما انسحب بن غريون من الوزارة. ترك (أنطوني إيدن) داونغ ستريت ولم تكن هزيمة (جي موليه) في فرنسا أقل مرارة من هزيمة إيدن وبن غريون كان الأعداء ينتظرون رحيل هذا البكباشي القوي الشكيمة المتعصب للحق والكرامة فإذا به يصبح بطل العروبة ورجل القرن العشرين. يبقى يوم 23 ديسمبر يوم النكبة الاستعمارية وانتصار المقاومة الشعبية وإن كانت القوى غير متكافئة فالعزيمة المصرية كانت أقوى من أيّ سلاح توجهه أيدي الباطل لشعب مسالم لم يطلب غير أرضه وحقه. من البداية آمن ناصر بأن ضراوة الواقع الاستعماري لن تحطم الحلم إن كانت العزيمة مصرّة على تحقيق هذا الحلم.