إن شرط مواجهة الخطر الخارجي هو إعداد الجبهة الداخلية كما فعل صلاح الدين إزاء الغزو الصليبي عندما بدأ بالتخلص من دعاة الهزيمة في الداخل، وتوحيد مصر وسوريا. وأحد أسباب غزو الوطن العربي اليوم وحصاره وتهديده هو تفتت الجبهة الداخلية "أُكلت يوم أكل الثور الأسود". والوطن العربي الآن مخترق، أشبه بالجبن السويسري، مملوء بالفراغات الداخلية بالرغم من تماسكه الخارجي، وجود ينخر فيه العدم بتعبير جان بول سارتر، تفاحة مخوخة من الداخل بتشبيهه أيضاً. الهيمنة عليه ليست بسبب القوة المهيمنة من الخارج بل بسبب ضعفه من الداخل، مثل العين والمخرز بتعبير طيب تيزيني. وتتمثل نقاط الضعف في الوطن العربي في سيادة القُطْرية، "مصر أولاً"، "الأردن أولاً"، "الكويت أولاً". وهو ما أدى إلى الصلح المنفرد مع إسرائيل بداية بمصر في كامب ديفيد. فسيناء لها الأولوية على الضفة والقطاع والقدس والجولان. ثم الأردن في وادي عربة. فالسلام مع إسرائيل يؤدي إلى الرخاء ورضا الغرب، وجذب السياحة. ثم موريتانيا لتضمن الحماية الغربية وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية لتنفيذ مشاريع التنمية. رفضت إسرائيل المفاوضات مع العرب مجتمعين وفي وقت واحد لأنها تعلم أن الوحدة قوة، وأن الفرقة ضعف، وأنها تستطيع أن تملي إرادتها على كل قطر عربي بعد أن تستفرد به أكثر مما تستطيعه والعرب مجتمعين. ولا تريد إسرائيل ولا الغرب العودة إلى الناصرية والقومية التي لا تفرق بين سيناء والضفة والقطاع والجولان. ومن مظاهر الاختراق تأخر الإصلاح، وتفجير المجتمع العربي من الداخل بعد أن زاد الضغط عليه من الخارج. وكلما تأخر الإصلاح، وتوقف الحراك الاجتماعي الطبيعي تكونت حركات العنف من أجل التخلص من نظم القهر والفساد في الداخل والتبعية للخارج. ويهرب المعارضون إلى الخارج. ويكونون حركات معارضة تستقطب القوى الأجنبية بعضها لتجنيدهم في النظم القادمة بعد انهيار النظم الحالية. وتنشط المعارضة في الخارج، ويصبح المجتمع محاصراً إعلامياً من الخارج ومهدداً بالسلاح من الداخل. ومن مظاهر الاختراق شق الصف الوطني إلى حد الحروب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد، وانشغال التيارات السياسية بالاقتتال فيما بينها بدلاً من مقاومة الغزو ومظاهر الهيمنة في الخارج. حدث ذلك في لبنان والجزائر ومازال يحدث في السودان. فقد دمرت الحرب الأهلية لبنان أول مرة. وانتهت باتفاق الطائف. ثم انقسم بين "أكثرية" و"معارضة" بعد انتصار المقاومة بقيادة "حزب الله" على العدوان الإسرائيلي في الجنوب. كما اندلعت الحرب الأهلية في الجزائر. وكلفت أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل، وقد شارفت على النهاية بعد اتفاق الوئام الوطني. واشتعلت الحرب الأهلية في السودان بين الشمال والجنوب على مدى عشرين عاماً، ومازالت رحاها دائرة في دارفور. وقد اقتربت من نهايتها بالمصالحة الوطنية في الجنوب، وهي على وشك الانتهاء في دارفور بعد اتفاق أبوجا. غاب الحوار الوطني في الداخل. واقتتلت فرق الأمة. وقد ضاعت الأندلس من قبل بسبب الاقتتال بين ملوك الطوائف وتحالف بعضها مع القوى الخارجية. ومن مظاهر الاختراق وجود قوات أجنبية على أرض الوطن بالغزو المباشر مثل العراق أو بوجود أساطيل وقواعد وقيادات لها. لم يعد الوطن مستقلاً حتى بالمعنى الأول للاستقلال وهو إخراج القوات الأجنبية من الأوطان. قامت هذه القوات بغزو الوطن من داخله وبالقرب منه. أصبح الوطن العربي مستباحاً لمن يريد الغزو أو التهديد أو الحصار. وفلسطين أرض مستباحة يعبث بها العدو الصهيوني كما يشاء، قتلاً وتدميراً وتجويعاً وحصاراً. وعادت سياسة الأحلاف منذ رفض العرب "حلف بغداد" في الخمسينيات و"الحلف الإسلامي" في الستينيات. وبدأ تصنيف العرب إلى متطرفة ومعتدلة، يواجه بعضهم بعضاً. وقد يُقسم الوطن مذهبياً وعرقياً من داخله إلى شيعة وسُنة، وإلى أكراد وعرب وبربر وأفارقة. اخترقت الأحلاف والتكتلات الأوطان. وأصبحت أخطر من القواعد العسكرية الثابتة. ومن مظاهر الاختراق استسلام بعض النظم التي كانت ترفع صوتها بالرفض وبضرورة مقاومة الاستعمار والصهيونية تمسكاً بالحلم العربي القديم، وتأكيداً على الناصرية والقومية العربية. وتنصح بالاعتدال بعد أن كان يضرب بها المثل في التشدد. أعادت علاقاتها بالغرب واتجهت نحوه لإقامة مشاريع مشتركة للاستثمار بعد أن لم ينجح التعاون مع الشرق في التسليح. وتنتقل من الساحة العربية إلى ساحة أخرى. وقد يحدث اختراق آخر للأطراف وإغراؤها بالدخول في العولمة لمزيد من العوائد لعائدات النفط بعد استثمارها، ومد قناة بحرية من البحر الميت عبر إسرائيل إلى البحر الأبيض المتوسط بدلاً من قناة السويس. والقوى العظمى الدولية والمحلية قادرة على حماية النفط من الطامعين فيه. ويمكن سد فراغات الوطن العربي بوحدته ولحمته وممارسة سياسة الحماية الذاتية. وإذا كانت أوروبا استطاعت أن تقيم الاتحاد الأوروبي بعد قرنين من الحروب بين أقطارها فكيف لا يستطيع العرب أن يقيموا وحدة مصالح بين أقطارهم، على الأقل "شنجن" عربياً، وسوقاً عربياً مشتركاً, ودفاعاً عربياً مشتركاً, وتضامناً عربياً مشتركاً؟ لماذا يتأخر العرب في الإصلاح السياسي, حرية الفرد, وديمقراطية الحكم, والتعددية الثقافية والسياسية ويظل خطر القهر والاستبداد قائماً؟ لماذا لا تنشأ محافظات التكامل على الحدود، من أجل تآكل الحدود المصطنعة من خلال الحركات الشعبية وتأكيد أن الهوية لا تأتي من الجغرافيا بل من التاريخ، لا تأتي من حدود مصطنعة بل من تراكم تاريخي بلا حدود؟ إن العالم العربي قادر على حماية ذاته بذاته دون حاجة إلى إقامة قواعد عسكرية ثابتة في بحاره وعلى أرضه. وهو قادر أيضاً على التمسك بالتواصل المشترك منذ عصر تحرره من الاستعمار القديم في الخمسينيات و الستينيات إلى مقاومة أشكال الاستعمار الجديد منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. ويستطيع الوطن العربي حماية أطرافه من جذب مراكز أخرى لها خارج الوطن العربي, ومصر مركزه وقلبه حتى لا تتآكل عروبة الأطراف في الآسيوية شرقاً والأفريقية جنوباً، والغربية شمالاً. ألا تحتاج الأمة العربية إلى وعي عربي جديد كما كتب نجيب عزوري "يقظة الأمة العربية" منذ قرن من الزمان؟