كان المسلمون في المرحلة الأولى لفتح إفريقيّة، وعند تأسيسهم القيروان سنة 50/670، ابتعدوا عن البحر بطريقة جعلتهم في مأمن «من صاحب القسطنطينيّة»، أي الامبراطور البيزنطي . وهذا يعني أنّهم كانوا في حالة دفاعيّة تجاه الحملات القادمة من البحر، مع تركيز على الغزوات البرّيّة، إذ أنّ المسلمين دخلوا إفريقيّة عن طريق البرّ، ثمّ إنّ قواتهم العسكريّة هي تقريبا برّيّة بحتة. لكنّ عندما تمّ فتحُ إفريقيّة بسقوط قرطاجنّة سنة 80699، دخل المسلمون في المرحلة الثّانيّة للفتح، وهي مرحلة هجوميّة تجاه العدوّ المسيطر على البحر، إذ يقول البكري بمناسبة قرار إنشاء دار الصّناعة بتونس: «ويُجاهد (حسّان بن النّعمان) الرّوم في البرّ والبحر، ويغار منها على ساحل الرّوم». وهذا يعني أنّ المسلمين بدأوا في السّعي إلى السّيطرة على البحر على حساب البيزنطيين، ولن يتمّ لهم ذلك إلّا بإنشاء السّفن الحربيّة، وبالتّالي إقامة دار صناعة وإنشاء ميناء ترسو به السّفن. أَلا يمثّل هذا السّعي طموحا سابقا لأوانه لدى المسلمين في عهد عبد الملك بن مروان ؟ يُضيف البكري متحدّثا عن أهداف إنشاء دار الصّناعة «فيشتغلوا (الرّوم) عن القيروان نظرا للمسلمين وتحصينا لشأنهم»، أي أنّها أُنشئت بهدف حماية عاصمة إفريقيّة الجديدة وهي القيروان. وهذا يأتي كتعديل منطقيّ لطموحات عبد الملك بن مروان من دار الصّناعة، إذ أنّ الشّغل الشّاغل في تلك الفترة بالنّسبة إلى الخليفة هو تركيز المسلمين بإفريقيّة، وذلك بالمحافظة على القيروان حصن المسلمين عند الحاجة، ومستودع أسلحتهم، وفي نفس الوقت نقطة الانطلاق للتّوسّع غربي بلاد المغرب، ولنشر الإسلام في تلك الرّبوع. ولن تقع المحافظة على القيروان، إلّا بصدّ البيزنطيين عن سواحل إفريقيّة بمحاربتهم في البحر، وحتّى نَقْل ميدان المعارك من إفريقيّة إلى «ساحل الرّوم»، وهو هدف من الصّعب بلوغه في عهد عبد الملك، ممّا يجعلنا نقول إنّ المسلمين لم يدخلوا في المرحلة الهجوميّة بحرا تجاه البيزنطيين إلّا بصفة محتشمة في عهد هذا الخليفة، إذ أنّ دار الصّناعة بمدينة تونس تنظر إلى القيروان، وتحرسها أكثر من اهتمامها بالتّوسّع بحرا على حساب البيزنطيين. ولن يدخل المسلمون أوج هذه المرحلة الهجوميّة إلّا إثر تراجع نفوذ البيزنطيين، ممّا يسمح لهم بإقامة ديار صناعة بمواقع مكشوفة تفتح مباشرة على البحر، مثل سوسة في العهد الأغلبي، والمهديّة في العهد الفاطمي. لكن هل هذا يعني أنّ نشاط سفن دار الصّناعة بمدينة تونس اقتصر على حراسة القيروان بعد عهد عبد الملك ؟ بعبارة أخرى، هل قام المسلمون فعلا بحملات أو غزوات على سواحل الرّوم انطلاقا من مدينة تونس ؟ نبدأ بالإشارة إلى قلّة المادّة التّاريخيّة حول هذا الموضوع، إذ أنّ جلّ المصادر تركّز على الحملة الرّسميّة الّتي قادها أسد بن الفرات ضدّ صقلّيّة سنة 212827، والّتي انطلقت من سوسة. أمّا الغزوات الّتي سبقتها والّتي انطلقت من مدينة تونس، فقد لحقتنا حولها أخبار مشتّتة وقابلة للنّقاش. يتبع