منذ 2011، ظلّ الحديث عن الماضي طاغيا على اهتمامات التونسيين مقابل تجاهل للاهتمام بالمستقبل. سياسيون ومثقفون وحُكّام ومُفكّرون وأحزاب ومجتمع مدني وأطراف فاعلة في البلاد عدّلوا بوصلة تفكيرهم طيلة سنوات ما بعد الثورة على الماضي مطالبين بكشف الحقائق وبمحاسبة من أذنب سابقا وبجبر الأضرار وذهب بعضهم حدّ المطالبة بالانتقام! أطراف عديدة في تونس مازالت تنظر الى الماضي وكأنه الحاضر وتريد تعديل بوصلة البلاد برمتها على ما حصل فيه من تقلبات وتطورات وتريد أن لا يكون لمؤسسات الدولة اليوم غير شغل شاغل وحيد وهو النظر في ملفات الماضي وتصفية الحسابات ومحاسبة المُذنبين، أما المستقبل فكان آخر الاهتمامات. بالأمس، شرعت الدوائر القضائية المختصة في النظر في حادثة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف التي تعود الى حوالي 60 عاما.. وعلى امتداد الأسبوع الماضي أخذ الجدل حول الرئيس السابق بن علي الكثير من وقت التونسيين رغم مضي 8 سنوات على نهاية حقبة حكمه.. وطيلة السنوات الماضية ظل الحديث عن فترة حكم بورقيبة محور جدل واسع أيضا بين التونسيين وأخذ من اهتماماتهم ومن وقتهم الكثير رغم مرور عشرات السنين عليها. ومع تقدم الوقت اتضح أن التشبث بالحديث والجدل حول الماضي لن يُفيد البلاد في شيء بل بالعكس يُعطّل التفكير في المستقبل ويتحول عادة إلى مصدر احتقان أو عراك بين السياسيين وإلى مصدر تعطيل للسلطة في التأسيس للمستقبل وفي القيام بالاصلاحات وفي النظر إلى الأمام واستنباط الحلول وتحضير الارضية الملائمة للأجيال القادمة. صحيح أن الدول تتعلم من ماضيها وتتخذ منه مرجعا لتفادي الأخطاء ولتحقيق الاصلاح لكنها بالتوازي مع ذلك تنظر الى المستقبل وتخطط له في مختلف المجالات. فالماضي لا يجب أن يتحول إلى مُعطّل للتجديد أو إلى قوة جذب نحو الخلف او أن يُحوله البعض إلى «أصل تجاري» لممارسة السياسة او لتحقيق مصالح ومنافع. لقد ضيعت تونس فرصة مسار العدالة الانتقالية الذي انتهى بفشل ملحوظ في تحقيق أبرز الأهداف المرجوة منه وهي خاصة طي صفحة الماضي والمصالحة الشاملة.. ويبقى الامل في مسار جديد للعدالة الانتقالية يكون أكثر تطورا ويضع حدّا ل«أزمة الماضي» التي بقيت البلاد حبيسة داخلها ويؤسس لعفو عام ولمصالحة شاملة ويسمح بانطلاق الجميع نحو المستقبل بروح جديدة قوامها التسامح و العمل والابداع والانتاجية وحب الوطن والرقي الفكري والسياسي والاجتماعي بعيدا عن أحقاد وحسابات وضغائن الماضي.