وبعدما تم المهرجان وانفض، حاولت القوى القومية أن تقوم بالمقابل بالتعبير عن وجودها الحقيقي في المدينة واعترض الشيوعيون وطالبوا بنزول القوات العسكرية – التي كانت لديها أوامر بالبقاء في ثكناتها حتى يعقدوا مهرجانهم – كي تفض التجمع القومي، ولكن التظاهرة القومية سارت في المدينة وازدادت اتساعا. وإذا بطلقات الرصاص تنهمر عليها ونيران الحرائق تتصاعد من المكتبات والمحلات والمقاهي المملوكة لعناصر تنتسب إلى الحركة القومية، ومظاهرة مقابلة يقودها الشيوعيون تحاول أن تحاصر المظاهرة الأولى وعند منطقة في المدينة تسمى (باب البيض) وهي منطقة يهيمن عليها القوميون بشكل كامل – بدأت المظاهرة الشيوعية تفقد أعصابها فأخذ أفرادها يهاجمون البيوت ويخرجون ساكنيها منها ويلقون بهم إلى الطرقات المجنونة حيث العنف وحده هو السيد المطاع. لم يكن ثمة مفر من أن تبدأ قوات الجيش القيام بواجبها. نزلت إلى الشوارع وأعلنت منع التجول في المدينة بعد أن صارت نهبا لحرائق الدم والنار. في بلاد بلا رأس يديرها، قرر الضباط الذين اجتمعوا بالشواف، على إثر منع التجول أن يقوموا بانتفاضة مسلحة وأن يكونوا الرأس الذي يستطيع أن يمسك بدفة البلاد. وفي مارس أعلن الشواف على رأس فرقته المسلحة بيان انتفاضته الأول... والأخير. لم يكن لهذه الحركة تخطيط دقيق ولم يكن لها تنظيمها الذي يساندها في المواقع العسكرية الأخرى وشاء حظها العاثر ألا يكون ظرفها مؤاتيا، فأرسل قاسم طائراته لقمع الحركة في مهدها وجرح الشواف من جراء القصف الجوي وحاول أن يذهب إلى المستشفى بنفسه ليداوي جراحه وفي الطريق أطلقت عليه رصاصة وعلقت جثته وسط العراء كشاهد حزين على قمة المأساة التي بلغها الصراع الدامي بين الشيوعيين والقوميين. وبعد أن ضربت حركة الشواف في رأسها كان ذلك إيذانا بفتح أبواب السعير على مصراعيها انطلق جنون العنف كعملاق أعمى يضرب في كل اتجاه وصارت شوارع المدينة غابة من الحبال التي تسحل الأجساد البريئة حتى تفارقها الحياة وتحطمت أبواب وتهدمت بيوت واختنق شيوخ ونساء وأطفال وصلبت الأجساد على أعمدة الكهرباء ومن بينها أجساد العذارى عاريات. بينما شوارع بغداد تتدفق عليها مظاهرات غريبة لم يكفها ما جرى في الموصل، فإذا بها تهتف اعدم.. اعدم.. وصحيفة «اتحاد الشعب»، لسان حال الحزب الشيوعي العراقي تصدر في صفحتها الأولى تقول : (بعد أن شهدت الموصل أمس سحل جثة عبد الوهاب الشواف جاء في يوم الثلاثاء ليلا دور الآخرين فبدأت الجماهير الغاضبة منذ المساء بسحل جثثهم في الشوارع ليكونوا عبرة...). وبعدها يصدر نداء من المنظمات النقابية التابعة للحزب الشيوعي يقول (سنقلب العراق جحيما، إن كل مدينة وكل قرية وكل شبر من أرض العراق ستلقن كل من يقدم على التجاوز على جمهوريتنا درسا أبلغ من درس الموصل...). ثم بعد ذلك بيومين وفي مجال تقويم التجربة «الثورية» التي خاضها الشيوعيون في الموصل كتبت جريدة اتحاد الشعب تحيي (المناضل البرزاني)الزعيم الإقطاعي الكردي قائلة (كان وجود المناضل البرزاني في كردستان أثناء حدوث تمرد العصاة الخونة زمرة الشواف ذا أثر كبير في زيادة اندفاع الأكراد للمساهمة في قمع العصيان وقتل مؤامرة الشواف في مهدها). وبعد مهرجان القتل والسحل في الشوارع والطرقات بدأ مهرجان آخر في (محكمة المهداوي). والمآسي من فرط مأساويتها تتحول أحيانا إلى مهازل مضحكة. فلم يحدث قط في أي محكمة في العالم حتى في محاكم مجرمي الحرب العالمية الثانية في نورمبرغ أن وقفت الجماهير في قاعة المحكمة لتقول بصراخ عصبي مجنون وهي تلوح في الهواء بحبال في أيديها (اعدم... اعدم.. )بينما كان فريق من الضباط القوميين – الذين مهما كان خلافهم مع الحكم القائم فهم وطنيون من قمة رأسهم حتى أخمس أقدامهم _ يقفون في قفص الاتهام وينتظرون أن يفرغ رئيس المحكمة من سبابه للقومية والوحدة العربية والجمهورية المتحدة وجمال عبد الناصر حتى يتلو عليهم وسط التكبير والتهليل الحكم بالإعدام. (يتبع)