إن التوكّل على الله تعالى والاعتصام به وحده كان هو الملجأ الذي لجأ إليه المرسلون - عليهم السلام - من بطْشِ الجبابِرة والمستكبرين وأَنْعِمْ به من ملجأ؛ فالله تعالى نعم المولى ونعم النصير. فهذا نوح عليه السَّلام لما كذبه قومه وآذَوْا أتباعه يخاطبهم معلنًا توكُّلَه على الله تعالى فيقول: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]. وهكذا فعل قوم هودٍ عليه السلام به فآذوه، واتهموه بالجنون، فتبرأ منهم ومن شركهم، وأعلن توكله على الله تعالى ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 54 - 56]. والنبيان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام لاذا بحمى الله تعالى وتوكلا عليه في أحرج الساعات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السَّلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]»؛ رواه البخاري . ومن توكله عليه الصَّلاة والسَّلام: أنه لما دخل الغار ومعه أبو بكر ليلة الهجرة، والمشركون يتبعونهم قال أبو بكر رضي الله عنه من شدة خوفه على النبي صلى الله عليه وسلم من أن يُدركَه المشركون: «لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا». فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!) رواه الشيخان. وتوكَّل على الله تعالى في مواجهة الكافرين، ومقابلة كثرة أعدادهم، وتنوع عتادهم، وشدة بأسهم بالثبات على الحق، والصبر في المعركة، والعلم بأنَّ النصر من عند الله تعالى واليقين بأن المؤمن لا يخسر في معاركه مع المنافقين والكافرين شيئًا، وهو فائز فيها على كل حال، فإما نصر وإما شهادة، ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ﴾ [التوبة: 51 - 52]. إنها كفة راجحة لأهل الإيمان على أهل الكفر والنفاق، يثقون بالله تعالى ويسألونه الفَرَجَ في مِحَنِهم، واليُسر في عسرهم، والخلاص من كربهم، والثبات على دينهم، والنصر على أعدائهم، ومن كان الله تعالى معه فلن يُهزَم مهما كانت الأحوال والظروف ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]. الخطبة الثانية التوكل على الله تعالى سبب من أسباب إزالة الخوف، وطمأنينة القلب، وسكون النفس في أحوال الفتن والمحن، وهو سبب لِلثبات على الدين، والصدع بالحق؛ ذلك أن المتوكّل على الله تعالى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الناس لوِ اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم» . إن التوكل على الله تعالى دليلٌ على صحة الإيمان، وقوة اليقين، وخلو القلب إلا من الله تعالى كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «صدق المتوكل على الله عزَّ وجلَّ أن يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء». وقال سعيد بن جبير رحمه الله: «التوكل على الله جماع الإيمان». إن معانيَ التوحيد، والعبودية لله تعالى بالقلب واللسان والجوارح، والسنن الربانية في البشر؛ كالنصر والتمكين للمؤمنين، وسوء عاقبة الظالمين لا يدرك كثير من الناس حقيقتها ومعانيها، ولا تتجذر في قلوبهم إلا عند المواجهات الكبرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق، والسلاح الأقوى الذي يتسلح به المؤمنون ولا يملكه غيرهم مع إعداد العدة اللازمة هو التوكل على الله تعالى كما قالت الرسل لأقوامهم ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ﴾ [إبراهيم: 12].