عكس ما يترصّده البعض لها، من عرقلة وتشويه ومحاولات تعطيل، فإنّ حركة النهضة تبدو، مقارنة بسائر خصومها، في الوضع الأكثر أريحيّة والأكثر تأثيرا أشهرا قليلة قبل إجراء الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة. المتابع لتطورات المشهد السياسي خلال السنوات الفارطة، وتحديدا منذ العام 2014، يلحظُ دونما عناء المطبّات الصعبة التي عاشتها حركة النهضة حينما خسرت الموقع الأوّل في مجلس نواب الشعب. وخسرت مواقع مهمّة في سدّة الحكم. وباتت عارية في مرمى نيران من أكثر من جهة. لكن مع كلّ مطبّ تخرجُ النهضة متماسكة وأكثر صلابة في مقابل تراجع متواصل لأبرز منافسيها وخصومها. ما الذي فعلته النهضة حتّى تبقى كما هي الآن، قادرة على التحكّم بقدر لافت للنظر في تحوّلات المشهد السياسي، وحتى الحزبي، ذاهبة، بحسب آراء الخبراء والمحلّلين المُحايدين وجل عمليات سبر الآراء، الى نصر انتخابي تشريعي جديد ومندفعة لتحديد هوية رئيس الجمهورية القادم؟ استمراريّة سياسة التوافق نجحت النهضة أولا في تحقيق استمراريّة لسياسة التوافق مع السبسي ونداء تونس التي انطلقت منذ لقاء باريس في أوت 2013. هذه السياسة خفّضت بدرجة مهمّة من حدّة الطوق الخارجي، الإقليمي على وجه الخصوص، بعد انكسار ما سُمّي بموجة الربيع العربي الأولى وخاصة ما تعرّض له تيار الإخوان المسلمين من محاصرة وتضييق، إضافة الى أنّها سياسة مكّنتها بداية من البقاء في أروقة الحكم في فترة الحبيب الصيد وفترة يوسف الشاهد الأولى، لتتمكّن لاحقا، بداية من شهر ماي 2018 بانفضاض مجلس وثيقة قرطاج، من امتلاك زمام موجّهات الحكم مرّة واحدة بسيطرتها على جزء مهم من مؤسّسات الحكم المحلي وتحوّلها كقوّة أولى ليس فقط كداعم للحكومة ومساند لها. بل أيضا قوّة وازنة ومؤثرة داخل أجهزة الدولة المختلفة بعدد هام من الحقائب الوزاريّة والمسؤوليات القياديّة في المؤسسات والإدارات العموميّة (رؤساء مديرين عامين- مديرين عامين - مديرين جهويين) والسلطة المحلية والجهويّة (ولاة، معتمدين) يعكسُ منسوب الثقة المرتفع من قبل مؤسّسات الدولة لها ولممثّليها. ورغم موجة الاتهام بالجهاز السري والتورّط بالتسفير وفي الاغتيالات السياسيّة والسعي الى ركنها في الزاوية من جديد بإثارة مسألة خلافيّة على غاية من التشابك والتعقيد (المساواة في الإرث)، فقد حافظت النهضة على هدوء عجيب فارق ولم تنخرط في سياق المزايدات. وتمسّكت بشعار التوافق. وعملت على توسيعه في اتجاه البحث عن شراكة استراتيجيّة مع يوسف الشاهد رئيس الحكومة وآخرين من بينهم كمال مرجان ومحسن مرزوق. وكان شعار الاستقرار الحكومي هذه المرّة ذا جاذبية عالية محليّا ودوليا. فقد بارك كثيرون ذلك التوجُّه على الرغم ممّا رافق بداياته من مخاوف ومحاذير، حتى داخل النهضة نفسها. فقد وُفّقت النهضة في مساعيها. وتشكلت حكومة بمكونات جديدة أبرزها حركة مشروع تونس التي كانت تعدّ من عتاة المعادين لها. كما أنّها لم تقطع شعرة معاوية مع السبسي ونداء تونس، ممّا جعل إمكانات المناورة أمامها مفتوحة، للتعديل أو المراجعة. «سياسة التوافق» مكّنت من إبعاد الجبهة الشعبية وآفاق تونس والطيف المعادي للنهضة عموما عن السبسي ونداء تونس، بما شكّل مشهدا سياسيا متوازنا لا تبدو في بداياته النهضة صاحبة المرتبة الثانية في آخر انتخابات تشريعيّة وفي تطوراته اللاحقة بدت فيه هي الماسك بمسارات تشكّله المتسارعة، الى حين جاء «الاستقرار الحكومي» راسما مشهداجديدا مُغايرا بدا فيه نداء تونس المنافس الأبرز للنهضة في وضع انقسام هو الأخطر على الإطلاق منذ تأسيسه سنة 2012 بتخلّص يوسف الشاهد من هيمنة «آل السبسي» وإعلان المشروع السياسي لرئيس الحكومة المنفصل عن إرادة قصر قرطاج وبناية البحيرة والذي انتهى بتأسيس حزب تحيا تونس، حزب رئيس الحكومة، بقيادات ومناضلين وهياكل تركت فراغا كبيرا في نداء تونس الأصلي. ماذا هناك الآن؟ هناك الآن الانتظارات والمزيد من التفاعلات حول قصّة العصفور النادر، وهو أشبه ما يكون بالطُعم الذي تقذف به النهضة للآخرين رغبة في استبدال إدانتها ومحاولة حصارها الى بحث عن كسب ودّها. إذ لا شكّ في أنّ الرصيد الانتخابي للنهضة، وهو واقع وازن حتى باحتساب المناضلين والمنخرطين والمقربين منها فقط، هو رصيد محدّد الى درجة كبيرة لهويّة رئيس الجمهورية القادم خاصة خلال الدور الانتخابي الثاني. واستطاعت النهضة كسر الطوق الخارجي. بل ما تزال تلقى حظوة دولية لافتة للنظر شرقا وغربا، مثلما تعكسه ذلك الزيارات شبه الرسميّة التي يؤدّيها رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي إلى عواصم القرار المختلفة مثل باريس وبرلين وأنقرة والدوحة ولندن وواشنطن وبيكين ونيودلهي. وفي مواقفها المتتالية تحرزُ النهضة باستمرار المزيد من التتونس والاندراج في دواليب الدولة والانخراط في المنظومة السياسيّة المدنيّة الوطنيّة. لذا فالنهضة لا تقبلُ الجمود. ولا تركن إلى الراحة وتبعا لذلك فهي لا تتوقّف أبدا عن مناوراتها، ومع إرباك منافسيها وخصومها فالعقل النهضاوي، على ما يبدو، يدفع إلى إحراج هؤلاء ودفعهم الى تعديل مواقفهم منها. وهو ما يُكسب حركتهم المزيد من التوطين والاعتراف بها والتسليم بقدراتها وإمكاناتها. النهضة باتت المهندسة الأولى لبنية المشهدين السياسي والحزبي، ماسكة جيّدا بمفاتيح اللعبة السياسيّة ولو إلى حين.. فالنهضة الباحثة اليوم، نظريّا مثلما تعكسهُ مواقفها، عن مواصلة سياسة التوافق وعن شراكة استراتيجيّة مع حلفائها الحاليين (الشاهد- مرجان- مرزوق) والباحثة أيضا عن عصفور نادر يسكن قصر قرطاج في هدوء ودون ضجيج، تبقى دون ريبة في تشوّف وتشوّق انتظارا لحصاد الانتخابات التشريعيّة القادمة علّه يمكّنها من بلورة أغلبية برلمانية حاكمة. ويجعلها صاحبة دور في انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، فممّا قيل من أمثالنا الشعبيّة إنّ حساب الحقل قد لا ينطبق على حساب البيدر. فالمتغيّرات كثيرة ومتسارعة وبوادر تواصل الأزمة السياسيّة ماثلة، وهناك من التطورات ما يدفع إلى الكثير من المحاذير ليس فقط في علاقة بما تهندس له النهضة وعلى مستقبلها في الحكم أو المعارضة بل على كامل المسار الديمقراطي برمّته، ومن ذلك الغبار الذي بدأ يتصاعد حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة.