قال الله جلّ جلاله وهو أصدقُ القائلين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]. في هذه الآيةِ خطابٌ لأهلِ الإيمان السامعين المستجيبين لله ورسوله، ينهاهم ربُّهم أن يأكلَ بعضُهم مالَ بعض بالباطل. والمرادُ بالباطل ما كانَ الأكلُ بغير حقٍّ، أكلٌ لمالِ الغير ظلمًا وعدوانًا. ذلك أنَّ مالَ المؤمن محتَرمٌ، والتعدِّي عليه ظلمٌ وعدوان، ولا يحلُّ مال امرئ مسلمٍ إلاَّ بطيبٍ من نفسه. وقد أمرنا الله أن نأكلَ من طيّبات ما رزَقنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]. والطيِّبُ هو الحلالُ المباح. فالمال الحرام محرَّمٌ شرعًا. وإذا كان هذا مالَ الغير، فحرامٌته اشد يعتبر تعديا وظلما . ونبيَّنا محمّد صلى الله عليه وسلم حذَّرنا من المكاسب الخبيثة، وحذّرنا من أكلِ الحرام، وتوعَّد آكلَ الحرام بوعيد شديد، من أعظمِها أنَّ أكلَه للحَرام عائقٌ من إجابةِ الدعاء وسببٌ لردِّ الدعاء. فأكلُ الحرام يمنَع إجابةَ الدعاء، مع ما يترتَّب عن أكلِ الحرام من ظلمٍ وعدوان. وإنَّك أيها المسلم بأكلِ المال الحرام تُغدِّي نفسَك بهذا المال الخبيث وتُطعِمه أولادَك. فتتحمَّل الأوزارَ والآثام. وأكلُ مالِ الغير بالباطلِ، بالظلم والعدوان، يكونُ بصور متنوعة منها اغتصابُ أموالِ الغير.فاغتصابُك لمال غيرك وأخذُك مالَه قهرًا وعدوانًا تُعتبر بهذا آكلاً للحرام؛ لأنك تعدَّيتَ على مالٍ لا يحقّ لك. فأخذتَه ظلمًا وعدوانًا. فأنتَ بهذا آكلٌ للحرام. وسرقتُك لمال الغير خفيةً تعتبر آكلاً للمال الحرام. وجَحدُك الحقَّ الواجبَ عليك، والمتعيِّن عليك أداؤُه يعتَبر أكلاً للحرام؛ لأنَّ هذا الحقَّ الذي يجب عليك أن تؤدِّيه لصاحبه؛ لكونه عِوَضًا عن قِيَم المبيعات أو أجره أو نحو ذلك، فإذا جحدتَه كنتَ بذلك آكلاً للحرام. ومعاملتُك الربويَّة بالفوائدِ تُعتبَر ظلمًا وحرامًا عليك. ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]. فالفوائدُ الربويّة أكْلُها حرام؛ لأنّ الله حرَّمَ ذلك في كتابه. وحرَّمه رسولُه صلى الله عليه وسلم. وعدمُ إعطاءِ الأجير حقَّه والمماطلةُ بذلك يعتبَران أكلاً للحرام؛ لأن الأجيرَ يجبُ أن يُعطَى حقَّه كاملاً، فالمراوغةُ والمماطلةُ، والمحاولةُ للاستنقاصِ وجَحد البعض تعتبَر أكلاً للحرام. وخيانتُك لما اؤتُمنتَ عليه من مال، يعد من أعظم الخيانة وأقبحِها ويعد صاحبها آكلاً للمال الحرام. وأكلُ مالِ اليتيم وعدمُ إعطائه حقَّه يعتبَر أكلاً للحرام. وإن الغش في البيوع، والكذب والتدليس يعتبر أكلاً للحرام؛ لأنّ الواجبَ على البائع الصدقُ في بيعه، وأن لا يخدَع ولا يغشَّ ولا يخون. بل يكون إخبارُه صحيحًا صِدقًا، فإن دلَّس وغشَّ وخان كان آكلاً للمال الحرام. كما أن قبول الرِّشوة، أو طلب الرِّشوة والسعي الى أجلها، والتوقُّف عن تنفيذ الحُقوقِ والمعاملات للأفراد إلى أن يُعطى رشوةً على قدرِه، يعتبَر آكلاً للمال الحرام؛ لانها أخذت بغير حقِّه. الخطبة الثانية المؤمنُ حقًّا في قلبِه إيمانٌ يحجزه عن الحرام. وفطرتُه السليمة ترفُض الحرامَ وتكرهه، إيمانُه الصادقُ يرفض المكاسبَ الخبيثة. ولا يرضى بها ولا يطمئنّ إليها، كلَّما عَرَض له مكسبٌ خبيث تذكَّر الله والدارَ الآخرة. فعفَّ عن الحرام. وترفَّعت نفسُه عن الحرام. إنَّ المالَ فتنةٌ وبلاء إلاَّ من عصَم الله. فما أكثَرَ المفرّطين، وما أكثرَ المتساهلين، وما أكثَر المتأوِّلين لاستحلال أموال الغير ظُلمًا وعدوانًا. يستغلُّون ضعفَ الإنسان أحيانًا. ويستغلّون قوَّتهم ونفوذَهم.ويستغِلُّون قدرتَهم على التأثير. فحقوقُ الناس يساوم عليها، إن أُعطُوا نفَّذوا، وإن لم يُعطَوا جحَدوا وأنكَروا. فهم لصوصٌ والعياذ بالله. ولا يعلَمون أنّ هذا المالَ الذي حَازُوه هو حرامٌ عليهم. وسيكونُ حَطَبًا يتأجَّج عليهم في نارِ جهنَّم. فكم من أناسٍ يسهِّلون الحرامَ ويتعدَّون الحدودَ. ويقول قائلهم: هذا مالٌ نِلتَه، ومالٌ لم تُجبِر عليه أحدًا، ولم تغصِبه من أحدٍ، ولم تسرِقه؛ إنما مالٌ أخذتَه في سبيل تنفيذِ مهمَّةٍ، أو في سبيل إعطاءِ أمانة. أنت في هذا المركَز لا بدّ أن تأخُذَ، ولا تفُوت الفرَص عليك.. إلى آخر ذلك... فيستحلّون أموالَ المسلمين. ويأخذونها ظلمًا وعدوانًا. وهذه أمورٌ خطِيرة. يجحَدُ الإنسانُ حقوقَ الغير. وعُمّالٌ لهم حقوقٌ لا يُعطَون إيّاها، لماذا؟ لأنهم ضعفاءُ وفقَراء ولا يستطيعون. فيذهَبون وأموالهم عند ذلك الجائرِ الظالم. ثم يندَمُ بعد ذلك ولا ينفعه ندَمه. إن الله يعلم خائنَةَ الأعين وما تخفي الصدور. فمهما فعلتَ من حِيَل واتَّخذتَ من أساليبَ، فإن اللهُ يعلَم سرَّك وعلانيتك. ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29].