نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. وفي العاشر من جمادى الأولى 1314 ه / 1897 م غادر المدينة إلى ينبع فإلى جدّة فإلى السويس فإلى الإسكندريّة عن طريق القطار. وهناك حلّ ضيفا على أحد أصحابه من العلماء، ذكره بالاسم، قال : « ولمّا مكثنا عنده أيّاما ولم يدخل أحد من أهل العلم ولا علموا بنا ذهب إلى أعظم مسجد بإسكندريّة فوجد المدرّسين فيه على كراسيّهم فقال : يا علماء إسكندريّة هذه نصيحة، نزل ببيتي أحد علماء شنقيط ولم يأته أحد منكم فكرهت أن يذهب إلى بلاده ويقول دخلت إسكندريّة وما لقيت فيها عالما. قوموا إليه لتستفيدوا منه و يستفيد منكم. فأتاني بهم جميعا ومعهم إمامهم في العلم الشيخ الفاضل عبد الرحمان الأبياري ( ص 213 – 214) . ثمّ زار القاهرة – ويسمّيها مصر – ركوبا في القطار . وفيها أقام أربعة أيّام ضيفا، وزار بالمناسبة مقام السيّدة زينب ومقام سيّدنا الحسين « على القول بأنّ رأسه الشريف مدفون هناك، والله أعلم ... « ( ص 269). وهذا يكشف عن تعلّق صاحب هذه الرحلة بالأشراف من آل البيت على سنّة المغاربة في تشيّعهم ثمّ رحل إلى تونس فقضى قرابة ثلاثة أشهر منطلقا من الإسكندريّة في باخرة،يسمّيها بابور البحر مثلما سمّى القطار بابور البرّ، فأقام بزاوية سيدي إبراهيم الرياحي المنسوبة إلى طريقة سيدي أحمد التجاني لعلاقة تاريخيّة وثقافيّة بين تونس والمغرب، فهو بانيها وقبره فيها وابنه الطاهر بن إبراهيم هو المقدّم فيها. ومن هناك تناوب أصحاب الشيخ على استضافة فقيه المغرب. وفي مثل هذه المواقف اهتبل صاحبنا الفرصة للتبرّك والتوسّل بالرياحي والتجاني معا في قصيدة معدّدة لمآثرهما مطلعها: قد ظفرنا بمقصد ونجاح * إذ نزلنا فناء بيت الرّياح وتكرّم عليه مستضيفوه أمثال محمد بن عثمان السنوسي وسالم بو حاجب ومحمد الطيّب النيفر ببعض المال ينفقه وعدّة كتب مطبوعة يأخذها معه ( ص 273 – 277) . ومرّة أخرى تفيض قريحة محمد الولاتي بتربيع لسينيّة إبراهيم الرياحي، شطراها الأوّلان للولاتي، والأخيران للرياحي، هكذا ( ص 277 – 282) : أقول للخلّ يبغي الفوز بالآس * والأمن من شرّ وسواس وخنّاس صاح اركب العزم لا تخلد إلى اليأس * واصحب أخا الحزم ذا جدّ إلى فاس وأخيرا، في 11 ذي القعدة 1314ه / 1897 م أمكنه الرجوع إلى موطنه بالمغرب عبر مرسيليا، بعد فشل محاولة عبر مالطة . ومن طنجة إلى الدار البيضاء فإلى الرباط لشهر بدار عياله ( ص 283، 315) ثمّ إلى مرّاكش حيث أكرمه السلطان عبد العزيز أيّاما بمرتّب ومؤنة من الطعام والسكّر والشاي ( يسمّيه الأتاي بلهجة المغاربة ) إلى أن طلب الإذن بالخروج إلى الصويرة مرفوقا بنفس الإكرام ( ص 350 – 352) ثمّ إلى تزروالت وأكليميم ( ص 387) حيث انتظر قافلة تأخذه إلى موطنه أروان، فكان له ذلك في 6 شوّال 1317 ه / 1890 م ( ص 403). يتبع